أبو بكر الصديق رضى الله عنه
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
أبو بكر الصديق رضى الله عنه
أبو
بكر الصديق رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين، وخليفة رسول الله على
الصلاة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فهو ثاني اثنين وهو خير من طلعت عليه
الشمس بعد النبيين
بكر الصديق رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين، وخليفة رسول الله على
الصلاة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فهو ثاني اثنين وهو خير من طلعت عليه
الشمس بعد النبيين
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
أبو بكر الصديق ورقة القلب
بعض النفوس تكون في طبيعتها غليظة جافة، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة غير متكلفة، وكان أبو بكر من هذا النوع الأخير.
لقد سمع أبو بكر وصايا حبيبه محمد ، فحفظها، وعقلها وعمل بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "لا
تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا
يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ
وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ
مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ
الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ
وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
كانت رقة قلب أبي بكر الصديق
تنعكس على حياته الشخصية، وتنعكس على علاقاته مع الناس, وتستطيع بعد أن
تدرك هذه الحقيقة، حقيقة أنه جُبِل على الرحمة والرقة والهدوء أن تفهم
كثيرًا من أفعاله الخالدة .
عن
عائشة رضي الله عنها كما روى البخاري ومسلم، قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا
وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله
طرفي النهار، بكرةٍ وعشية، فلما ابتلي المسلمون (تقصد في فترة إيذاء
المشركين للمسلمين في مكة) خرج أبو بكر مجاهدًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا
بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا
بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
سبحان الله، سيترك التجارة والمال، والوضع الاجتماعي المرموق، والبيت والأهل والبلد والكعبة، بل أعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله .
هناك بعض الناس يحبون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرونها هم صحيحة، لكن أبو بكر كان يعبد الله بالطريقة التي يريدها رسول الله ،
كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة، ويعبد الله في سرية، ويتاجر، ويحقق
المال الذي يفيد الدعوة، لكن رسول الله أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له
حماية في مكة؛ لأن قبيلته ضعيفة، وهي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر،
وإلى أرض بعيد مجهولة غير عربية، إلى الحبشة، لكنَّ الله أراد لأبي بكر غير
ذلك، فأراد الله له البقاء في مكة فسخَّر له ابن الدغنة. قال ابن الدغنة:
فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم،
وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ونلاحظ أنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في وصف رسول الله .
ثم قال ابن الدغنة لأبي بكر: فأنا لك جار ارجع، واعبد ربك ببلدك. فرجع
وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشيًة في أشراف قريش فقال لهم:
أتُخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف ويعين
على نوائب الحق؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة:
مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا
بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
لأن قلوب
النساء، والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر رجل رقيق، يخرج كلامه من القلب،
فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتقرة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال
فقلوبهم كانت قاسية، عرفت الحق، واتبعت غيره.
فقال ابن الدغنة ذلك
لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ
في غير داره (يعني لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في
السوق) ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ
القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.
لا يريد أن يكتم أمر الدعوة، تتحرق نفسه شوقًا لإسماع غيره كلام الله ، وتشفق روحه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم تمامًا كرسول الله الذي خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]. هكذا كان أبو بكر الصديق .
أبو بكر الصديق يبكي عند قراءة القرآن :
كان
أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن, ولقد أفزع ذلك أشراف
قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم, فقالوا: إنا كنا
أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى
مسجدًا في فناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن
نساءنا وأبناءنا فانهه.
وهذا أمر طبيعي جدًّا، فإذا وصلت كلمات الله
وكلمات الرسول خالصة نقية إلى أسماع الناس وجردوا قلوبهم من المصالح، فمن
الطبيعي جدًّا أن يؤمنوا بها: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
وطبيعي جدًّا أن يقاتل الكافرون دون ذلك، وهم يعلمون صوابها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
قالوا:
فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك
فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر
الاستعلان.
هنا وُضع ابن الدغنة في موقف حرج فهو لا يريد أن يخسر كل
أهل قريش، كما أنه ليس من أهل مكة الأصليين ويبدو أن الكفر الشديد والعناد
الكبير سيجعل مكة تغير من قوانينها وأصولها فتكسر قواعد الحماية وتعطل
قانون الإجارة، ولذا قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر
فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع
إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجلٍ عقدت له.
هنا لا يتردد أبو بكر الصديق ، فالدعوة في مقدمة حياته على كل شيء حتى على حياته وروحه, فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله .
كانت هذه طبيعة أبي بكر، وكلنا يعلم أنه لما اشتد برسول الله وجعه، وذلك في مرض الموت، قيل في الصلاة, فقال : "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجلٌ رقيقٌ، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء. فقال : "مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ".
وفعلاً
صلى أبو بكر بالناس، وفعلاً بكى كعادته في قراءة القرآن تمامًا كما وصفته
ابنته الفاضلة السيدة عائشة رضي الله عنها: رجلٌ رقيقٌ.
موقف أبي بكر مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنهما:
هذه النفس الرقيقة، والقلب الخاشع، والروح الطاهرة النقية، والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيرًا من مواقف أبى بكر العجيبة:
أخرج أحمد بسند حسن عن ربيعة الأسلمي قال: جرى بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي كلمة كرهتها وندم.
ولنتأمل أن هذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله ، بمعنى أنه نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله ،
فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة، ويبدو أن الخطأ كان في جانب أبي بكر،
وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مع علو قدرهم، وسمو أخلاقهم، لكنه ثاب إلى
رشده بسرعة عجيبة، وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف، لكن هل وقف
الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبدًا، رقة نفس أبي بكر خرجت
بهذا الندم إلى خير العمل وأسرع، وهو نائب الرئيس يقول لربيعة الخادم: يا
ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا. فقال ربيعة: قلت: لا أفعل.
أدب ربيعة أثر تربية رسول الله :
قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله . فقال ربيعة: فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر إلى النبي ، وانطلقت أتلوه، وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله
وهو الذي قال لك ما قال. فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا
ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه،
فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة.
والله
إنه لمجتمع عجيب، وأعجب منه الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات
معدودات حتى أصبحوا كالملائكة. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. وانطلق أبو
بكر الصديق وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله ، فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال : "يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَالصِّدِّيقُ؟" فقلت: يا رسول الله كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها, فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصًا. فأبيت. فقال رسول الله : "أَجَلْ، لا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ". فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن: فولى أبو بكر وهو يبكي.
وكان
من رقته وحنانه أنه يشفق على المستضعفين في مكة، يقول عبد الله بن الزبير
رضي الله عنهما: كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام في مكة. بمعنى أنه
إذا أسلم الرجل، أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه. فكان يعتق عجائز ونساء
إذا أسلمن، فقال أبوه: أي بني أراك تعتق أناسًا ضعافًا، فلو أنك تعتق
رجالاً جلدًا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟
وقد كان أبو بكر
الصديق في حاجة إلى ذلك؛ لأن قبيلته قبيلة تيم كانت ضعيفة وصغيرة. فقال أبو
بكر الصديق: أي أبت أنا أريد ما عند الله. فنزل فيه قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7].
ونزل في أبي بكر كذلك قول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17-21].
وتأمل
معي حينما يَعِدُ الله سبحانه وتعالى بنفسه عبده بأنه سيرضى، أيُّ ثمن
دُفع وأيُّ سلعة تُشْترى؟ ما أزهد الثمن المدفوع، ولو كان الدنيا بأسرها،
وما أعظم السلعة المشتراة لأنها الجنة.
لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ابنة أبي بكر الصديق ، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاثة ، وهو من المهاجرين، وهو ابن خالة الصديق ، فحلف الصديق أن لا ينفع مسطح بنافعة أبدًا.
وهذا
رد فعل تجاه من طعن في عرض ابنته، فمسطح لم يتكلم في خطأ عابر لأم
المؤمنين السيدة عائشة، بل يطعن في عرضها وشرفها وهذه جريمة شنعاء وذنب
عظيم. فلما نزلت البراءة وأقيم الحد على المتكلمين نزل قول الله تعالى: {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
لا يأتل: أي لا يحلف.
أولوا الفضل: وهو وصف خاص بالصديق ،
وللعلماء تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين على أبي بكر
الصديق أنه من أولي الفضل على إطلاقها، فهي تعني كل أنواع الفضل.
فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق ؟
قال أبو بكر الصديق: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من نفقة وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
كل
هذا وهو ليس بذنب، بل قطع فضلاً ولم يقطع حقًّا لمسطح. أما نحن فللأسف
الشديد، كم مرة نسمع المغفرة، ونحن على ذنب كبير حقيقي، ونسمع: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فنقول: إن شاء الله، ونُسَوف في التوبة، كم مرة سمعناها، ونحن على ذنوبنا؟
هذا
هو الفرق بين الصديق، السبّاق إلى التوبة من ترك فضل وبين المُسَوّفين في
التوبة، فيجب علينا أن نتوب في هذه اللحظة؛ لكي نكون قد تعلمنا حقًّا من
أبي بكر الصديق وأرضاه.
روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني أن أبا سفيان أتى عَلى سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي فأخبره، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ". فأتاهم فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، غفر الله لك يا أخانا.
الصديق وأسرى بدر :
ولما استشاره رسول الله
في أمر الأسرى في موقعة بدر، ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا
أموالهم، وطردوهم من ديارهم، وحرصوا على حربهم، وكادوا يقتلونهم في بدر
لولا أن الله مَنَّ على المؤمنين بالنصر؟
لو نظرنا إلى أبي بكر
لوجدناه وكأنه يتحدث عن أصحابه لا يتحدث عن الأسرى، لقد قال: يا رسول الله،
هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ فيهم الفدية، فيكون
ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا.
أما عمر بن الخطاب، فقد كان جوابه مختلفًا، قال رسول الله : "مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟", فيرد عمر بن الخطاب فيقول: ولنتأمل كلام عمر بن الخطاب
وهو ملهم، ومحدث ومسدد الرأي، وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة
محمودة في زمان الحرب. بل إنَّ رأيه هو ذلك الرأي الذي يريده الله ووافق
فيه عمر ما أراد الله :
يقول
عمر: والله ما أرى ما رأى أبو بكر الصديق، ولكن أرى أن تمكنني من فلان
-أحد أقرباء سيدنا عمر بن الخطاب- فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي
طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله
أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء أئمتهم وقادتهم. فيقول عمر بن
الخطاب: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر الصديق، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.
نلاحظ التقارب الشديد في الطباع بين الرسول وبين أبي بكر، وإن كان الصواب في الموقف كان مع عمر.
يقول عمر: فلما كان الغد غدوت إلى النبي وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
لله
درك يا ابن الخطاب، عملاق آخر صنعه الإسلام، رقة متناهية مختفية خلف الشدة
الظاهرة، وقلب يذوب ذوبانًا في حب رسول الله وتواضع جم وأدب عظيم، فقال
رسول الله : "لِلَّذِي
عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ
عَلَيَّ عَذَابَهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ".
ولماذا العذاب؟ وكأن بعض الصحابة أرادوا الدنيا بهذا الرأي، وينزل قول الله: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68].
الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
ويلخص هذا كله رسول الله بتعليق جامع بعد قضية أسرى بدر، واختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي فيقول : "إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وَمَثَلُكَ مِثَلُ مُوسَى قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88]".
ولا
أحد يُخَطِّئ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام في رحمتهما
مع المذنبين، ولا أحد يخطئ نوح وموسى عليهما السلام في شدتهما في الحق.
إذن هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة الحانية التي جُبِل عليها أبو بكر الصديق .
هذه الرقة الشديدة والنفس الخاشعة، والطباع اللينة أورثت في قلب الصديق تواضعًا عظيمًا فاق كل تواضع.
تعالوا
نرقبه بإمعان وهو يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، موقف عجيب، أسامة
بن زيد دون الثامنة عشر من عمره، وهو جندي من جنود أبي بكر الصديق ،
وأبو بكر الصديق هو زعيم الدولة الأول، خليفة المسلمين يتجاوز في العمر
الستين سنة، ومع ذلك يودع بنفسه جيش أسامة، وهو ماش على قدميه، وأسامة بن
زيد يركب جواده، ولك أن تتخيل الموقف، أسامة على الجواد، وأبو بكر يسير
بجواره على الأرض، قال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن
أنزل.
فقال: والله لستَ بنازل، ولستُ براكب، وما عليَّ أن أُغَبّر قدمي في سبيل الله ساعة.
يا
الله، يا لها من تربية راقية تربية على منهج النبوة، يربي نفسه على
التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بالنفس، ويربي الجنود على الطاعة
لهذا الأمير الصغير، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه وعلى إخلاص
النية ووضوح الرؤية، ثم هو يريد عمر بن الخطاب معه في المدينة، وعمر بن
الخطاب في جيش أسامة، ومع أن أبا بكر الصديق هو القائد الأعلى لكل الخلافة
إلا إنه يستأذن أسامة بن زيد قائلاً: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.
أسامة بن زيد 18 سنة، أي من عمر شاب في الثانوية العامة اليوم, وهو لا يتصنع التواضع، ولكن هذا جزء لا يتجزأ من شخصيته وعن أصحابه، وصلِّ اللهم وبارك على الذي علم هؤلاء مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال.
بعض النفوس تكون في طبيعتها غليظة جافة، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة غير متكلفة، وكان أبو بكر من هذا النوع الأخير.
لقد سمع أبو بكر وصايا حبيبه محمد ، فحفظها، وعقلها وعمل بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "لا
تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا
يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ
وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ
مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ
الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ
وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
كانت رقة قلب أبي بكر الصديق
تنعكس على حياته الشخصية، وتنعكس على علاقاته مع الناس, وتستطيع بعد أن
تدرك هذه الحقيقة، حقيقة أنه جُبِل على الرحمة والرقة والهدوء أن تفهم
كثيرًا من أفعاله الخالدة .
عن
عائشة رضي الله عنها كما روى البخاري ومسلم، قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا
وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله
طرفي النهار، بكرةٍ وعشية، فلما ابتلي المسلمون (تقصد في فترة إيذاء
المشركين للمسلمين في مكة) خرج أبو بكر مجاهدًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا
بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا
بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
سبحان الله، سيترك التجارة والمال، والوضع الاجتماعي المرموق، والبيت والأهل والبلد والكعبة، بل أعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله .
هناك بعض الناس يحبون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرونها هم صحيحة، لكن أبو بكر كان يعبد الله بالطريقة التي يريدها رسول الله ،
كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة، ويعبد الله في سرية، ويتاجر، ويحقق
المال الذي يفيد الدعوة، لكن رسول الله أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له
حماية في مكة؛ لأن قبيلته ضعيفة، وهي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر،
وإلى أرض بعيد مجهولة غير عربية، إلى الحبشة، لكنَّ الله أراد لأبي بكر غير
ذلك، فأراد الله له البقاء في مكة فسخَّر له ابن الدغنة. قال ابن الدغنة:
فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم،
وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ونلاحظ أنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في وصف رسول الله .
ثم قال ابن الدغنة لأبي بكر: فأنا لك جار ارجع، واعبد ربك ببلدك. فرجع
وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشيًة في أشراف قريش فقال لهم:
أتُخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف ويعين
على نوائب الحق؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة:
مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا
بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
لأن قلوب
النساء، والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر رجل رقيق، يخرج كلامه من القلب،
فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتقرة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال
فقلوبهم كانت قاسية، عرفت الحق، واتبعت غيره.
فقال ابن الدغنة ذلك
لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ
في غير داره (يعني لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في
السوق) ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ
القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.
لا يريد أن يكتم أمر الدعوة، تتحرق نفسه شوقًا لإسماع غيره كلام الله ، وتشفق روحه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم تمامًا كرسول الله الذي خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]. هكذا كان أبو بكر الصديق .
أبو بكر الصديق يبكي عند قراءة القرآن :
كان
أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن, ولقد أفزع ذلك أشراف
قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم, فقالوا: إنا كنا
أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى
مسجدًا في فناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن
نساءنا وأبناءنا فانهه.
وهذا أمر طبيعي جدًّا، فإذا وصلت كلمات الله
وكلمات الرسول خالصة نقية إلى أسماع الناس وجردوا قلوبهم من المصالح، فمن
الطبيعي جدًّا أن يؤمنوا بها: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
وطبيعي جدًّا أن يقاتل الكافرون دون ذلك، وهم يعلمون صوابها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
قالوا:
فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك
فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر
الاستعلان.
هنا وُضع ابن الدغنة في موقف حرج فهو لا يريد أن يخسر كل
أهل قريش، كما أنه ليس من أهل مكة الأصليين ويبدو أن الكفر الشديد والعناد
الكبير سيجعل مكة تغير من قوانينها وأصولها فتكسر قواعد الحماية وتعطل
قانون الإجارة، ولذا قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر
فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع
إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجلٍ عقدت له.
هنا لا يتردد أبو بكر الصديق ، فالدعوة في مقدمة حياته على كل شيء حتى على حياته وروحه, فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله .
كانت هذه طبيعة أبي بكر، وكلنا يعلم أنه لما اشتد برسول الله وجعه، وذلك في مرض الموت، قيل في الصلاة, فقال : "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجلٌ رقيقٌ، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء. فقال : "مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ".
وفعلاً
صلى أبو بكر بالناس، وفعلاً بكى كعادته في قراءة القرآن تمامًا كما وصفته
ابنته الفاضلة السيدة عائشة رضي الله عنها: رجلٌ رقيقٌ.
موقف أبي بكر مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنهما:
هذه النفس الرقيقة، والقلب الخاشع، والروح الطاهرة النقية، والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيرًا من مواقف أبى بكر العجيبة:
أخرج أحمد بسند حسن عن ربيعة الأسلمي قال: جرى بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي كلمة كرهتها وندم.
ولنتأمل أن هذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله ، بمعنى أنه نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله ،
فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة، ويبدو أن الخطأ كان في جانب أبي بكر،
وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مع علو قدرهم، وسمو أخلاقهم، لكنه ثاب إلى
رشده بسرعة عجيبة، وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف، لكن هل وقف
الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبدًا، رقة نفس أبي بكر خرجت
بهذا الندم إلى خير العمل وأسرع، وهو نائب الرئيس يقول لربيعة الخادم: يا
ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا. فقال ربيعة: قلت: لا أفعل.
أدب ربيعة أثر تربية رسول الله :
قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله . فقال ربيعة: فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر إلى النبي ، وانطلقت أتلوه، وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله
وهو الذي قال لك ما قال. فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا
ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه،
فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة.
والله
إنه لمجتمع عجيب، وأعجب منه الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات
معدودات حتى أصبحوا كالملائكة. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. وانطلق أبو
بكر الصديق وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله ، فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال : "يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَالصِّدِّيقُ؟" فقلت: يا رسول الله كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها, فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصًا. فأبيت. فقال رسول الله : "أَجَلْ، لا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ". فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن: فولى أبو بكر وهو يبكي.
وكان
من رقته وحنانه أنه يشفق على المستضعفين في مكة، يقول عبد الله بن الزبير
رضي الله عنهما: كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام في مكة. بمعنى أنه
إذا أسلم الرجل، أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه. فكان يعتق عجائز ونساء
إذا أسلمن، فقال أبوه: أي بني أراك تعتق أناسًا ضعافًا، فلو أنك تعتق
رجالاً جلدًا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟
وقد كان أبو بكر
الصديق في حاجة إلى ذلك؛ لأن قبيلته قبيلة تيم كانت ضعيفة وصغيرة. فقال أبو
بكر الصديق: أي أبت أنا أريد ما عند الله. فنزل فيه قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7].
ونزل في أبي بكر كذلك قول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17-21].
وتأمل
معي حينما يَعِدُ الله سبحانه وتعالى بنفسه عبده بأنه سيرضى، أيُّ ثمن
دُفع وأيُّ سلعة تُشْترى؟ ما أزهد الثمن المدفوع، ولو كان الدنيا بأسرها،
وما أعظم السلعة المشتراة لأنها الجنة.
لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ابنة أبي بكر الصديق ، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاثة ، وهو من المهاجرين، وهو ابن خالة الصديق ، فحلف الصديق أن لا ينفع مسطح بنافعة أبدًا.
وهذا
رد فعل تجاه من طعن في عرض ابنته، فمسطح لم يتكلم في خطأ عابر لأم
المؤمنين السيدة عائشة، بل يطعن في عرضها وشرفها وهذه جريمة شنعاء وذنب
عظيم. فلما نزلت البراءة وأقيم الحد على المتكلمين نزل قول الله تعالى: {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
لا يأتل: أي لا يحلف.
أولوا الفضل: وهو وصف خاص بالصديق ،
وللعلماء تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين على أبي بكر
الصديق أنه من أولي الفضل على إطلاقها، فهي تعني كل أنواع الفضل.
فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق ؟
قال أبو بكر الصديق: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من نفقة وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
كل
هذا وهو ليس بذنب، بل قطع فضلاً ولم يقطع حقًّا لمسطح. أما نحن فللأسف
الشديد، كم مرة نسمع المغفرة، ونحن على ذنب كبير حقيقي، ونسمع: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فنقول: إن شاء الله، ونُسَوف في التوبة، كم مرة سمعناها، ونحن على ذنوبنا؟
هذا
هو الفرق بين الصديق، السبّاق إلى التوبة من ترك فضل وبين المُسَوّفين في
التوبة، فيجب علينا أن نتوب في هذه اللحظة؛ لكي نكون قد تعلمنا حقًّا من
أبي بكر الصديق وأرضاه.
روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني أن أبا سفيان أتى عَلى سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي فأخبره، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ". فأتاهم فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، غفر الله لك يا أخانا.
الصديق وأسرى بدر :
ولما استشاره رسول الله
في أمر الأسرى في موقعة بدر، ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا
أموالهم، وطردوهم من ديارهم، وحرصوا على حربهم، وكادوا يقتلونهم في بدر
لولا أن الله مَنَّ على المؤمنين بالنصر؟
لو نظرنا إلى أبي بكر
لوجدناه وكأنه يتحدث عن أصحابه لا يتحدث عن الأسرى، لقد قال: يا رسول الله،
هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ فيهم الفدية، فيكون
ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا.
أما عمر بن الخطاب، فقد كان جوابه مختلفًا، قال رسول الله : "مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟", فيرد عمر بن الخطاب فيقول: ولنتأمل كلام عمر بن الخطاب
وهو ملهم، ومحدث ومسدد الرأي، وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة
محمودة في زمان الحرب. بل إنَّ رأيه هو ذلك الرأي الذي يريده الله ووافق
فيه عمر ما أراد الله :
يقول
عمر: والله ما أرى ما رأى أبو بكر الصديق، ولكن أرى أن تمكنني من فلان
-أحد أقرباء سيدنا عمر بن الخطاب- فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي
طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله
أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء أئمتهم وقادتهم. فيقول عمر بن
الخطاب: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر الصديق، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.
نلاحظ التقارب الشديد في الطباع بين الرسول وبين أبي بكر، وإن كان الصواب في الموقف كان مع عمر.
يقول عمر: فلما كان الغد غدوت إلى النبي وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
لله
درك يا ابن الخطاب، عملاق آخر صنعه الإسلام، رقة متناهية مختفية خلف الشدة
الظاهرة، وقلب يذوب ذوبانًا في حب رسول الله وتواضع جم وأدب عظيم، فقال
رسول الله : "لِلَّذِي
عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ
عَلَيَّ عَذَابَهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ".
ولماذا العذاب؟ وكأن بعض الصحابة أرادوا الدنيا بهذا الرأي، وينزل قول الله: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68].
الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
ويلخص هذا كله رسول الله بتعليق جامع بعد قضية أسرى بدر، واختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي فيقول : "إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وَمَثَلُكَ مِثَلُ مُوسَى قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88]".
ولا
أحد يُخَطِّئ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام في رحمتهما
مع المذنبين، ولا أحد يخطئ نوح وموسى عليهما السلام في شدتهما في الحق.
إذن هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة الحانية التي جُبِل عليها أبو بكر الصديق .
هذه الرقة الشديدة والنفس الخاشعة، والطباع اللينة أورثت في قلب الصديق تواضعًا عظيمًا فاق كل تواضع.
تعالوا
نرقبه بإمعان وهو يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، موقف عجيب، أسامة
بن زيد دون الثامنة عشر من عمره، وهو جندي من جنود أبي بكر الصديق ،
وأبو بكر الصديق هو زعيم الدولة الأول، خليفة المسلمين يتجاوز في العمر
الستين سنة، ومع ذلك يودع بنفسه جيش أسامة، وهو ماش على قدميه، وأسامة بن
زيد يركب جواده، ولك أن تتخيل الموقف، أسامة على الجواد، وأبو بكر يسير
بجواره على الأرض، قال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن
أنزل.
فقال: والله لستَ بنازل، ولستُ براكب، وما عليَّ أن أُغَبّر قدمي في سبيل الله ساعة.
يا
الله، يا لها من تربية راقية تربية على منهج النبوة، يربي نفسه على
التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بالنفس، ويربي الجنود على الطاعة
لهذا الأمير الصغير، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه وعلى إخلاص
النية ووضوح الرؤية، ثم هو يريد عمر بن الخطاب معه في المدينة، وعمر بن
الخطاب في جيش أسامة، ومع أن أبا بكر الصديق هو القائد الأعلى لكل الخلافة
إلا إنه يستأذن أسامة بن زيد قائلاً: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.
أسامة بن زيد 18 سنة، أي من عمر شاب في الثانوية العامة اليوم, وهو لا يتصنع التواضع، ولكن هذا جزء لا يتجزأ من شخصيته وعن أصحابه، وصلِّ اللهم وبارك على الذي علم هؤلاء مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال.
عدل سابقا من قبل Admin في الأربعاء 09 يناير 2013, 06:00 عدل 1 مرات
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
أبو بكر الصديق ونعمة الثبات
لما علم الله عز وجل من الصديق إيمانًا عميقًا في قلبه، ويقينًا صادقًا
في عقله، وعملًا صالحًا في كل جوارحه. لما رأى منه حبًا جارفًا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل، واتباع دقيق، ولما اطلع على قلبه
فوجده رقيقًا حانيًا عطوفًا، ووجد خلقه حسنًا رفيعًا عاليًا، ولما علم منه
سبقًا إلى الخيرات، ومسارعة إلى الحسنات وحسمًا وعزمًا في كل أمور حياته،
ولما رأى منه عطاءً ثم عطاء .. لما رأى منه كل ذلك وغيره، أنعم عليه بنعمة
عظيمة وهِبة جليلة، أنعم عليه بنعمة الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات
على الإيمان، وعلى الإسلام، الثبات على الطاعة وحسن الخلق، الثبات على
العطاء، الثبات أمام الفتن، كل الفتن صغيرة كانت أو كبيرة، دقيقة كانت أم
عظيمة، خفية كانت أم ظاهرة.
والثبات شيء صعب وعسير، الإنسان قد ينشط في فترة من الفترات، ولكنه سرعان ما يفتر، قد يقوى في زمان، لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ
لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ
فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ".
ولكن العجيب في حياة
الصديق رضي الله عنه أن ترى ثباتًا في كل الفضائل، وفي كل المواقف منذ
أسلم، وحتى مات، مهما تغيرت الظروف والأحوال، والثبات فعلًا شيء عسير،
الدنيا من طبيعتها التقلب، من النادر أن تجد فيها شيئًا ثابتًا، كما قالوا
قديمًا: دوام الحال من المحال، يقول سبحانه: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ}[النور:44]، وفي موضع آخر يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
ويقول في موضع ثالث: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلَا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] .
هكذا
الإنسان دائمًا في تقلب، والأرض كذلك دائمًا في تقلب، والقلب أيضًا كذلك،
كثير التقلب، بل قيل: إن القلب سمي قلبًا؛ لأنه سريع التقلب.
روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ". فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نَعَمْ، "إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ".
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ".
ويزداد
الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حوله، فقلب قد يثبت على حاله من
الغنى، فإذا افتقر الإنسان فتن، وقلب قد يثبت على حاله من الفقر، فإذا
اغتنى الإنسان فتن، قد يثبت في بلد، ويفتن في آخر، قد يثبت في عمل، ويفتن
في آخر، قد يثبت في سن، ويفتن في سن آخر، بل قد يثبت في نهار، ويفتن في
ليل، بل قد يثبت لحظة، ويفتن في لحظة تالية، والإنسان في هذه الدنيا ليس
متروكًا في حاله، كثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه، الشيطان لا يهدأ ولا
يستكين، قال تعالى: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ
شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
فالدنيا مجموعة متراكمة من الفتن، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [فاطر:5].
ونفس الإنسان تُغير كثيرًا من قلبه، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].
وشياطين
الإنس أحيانًا ما يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن، وبين كل هذه المتقلبات
يعيش القلب، فكيف لا يتقلب؟ وهو القلب المشهور بالتقلب، والقلب إن كان
ضعيف الإيمان فتقلبه خطير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الحج:11].
والنجاة
من التقلب عسيرة إلا إذا مَنّ الله بها على عبده، والله لا يَمُنّ بالثبات
على عبد خامل كسلان، بل لا بد أن يقدم شيئًا، اسمع إلى قوله عز وجل: {لَا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إذن
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لصيقًا دقيقًا يقي الإنسان شر
الفتن، أو قل: يجعل الإنسان أهلًا أن يَمُنّ الله عليه بنعمة الثبات، جميع
الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم، اقرأ إن شئت كلام الله
سبحانه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].
واقرأ معي قوله تعالى: {يُثَبِّتُ
اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا
يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وأكثر
المسلمين اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق
رضي الله عنه، وأكثر المسلمين تلقيًا لتثبيـت الله بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا، حياته عجيبة رضي الله
عنه وأرضاه، كم من الفتن عرض عليه، وكم من الثبات قدم رضي الله عنه، روى
الترمذي وغيره حديثًا وقال: حديث حسن. يفسر لنا هذه الفتن الكثيرة التي
عرضت للصديق رضي الله عنه في حياته، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الْأَنْبِيَاءُ،
ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ
دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ
فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ
الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يُتْرُكُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا
عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ".
ولكون الصديق هو الأمثل في الإيمان، بعد
الأنبياء، فإن ابتلاءه كان شديدًا. ولنتجول في حياة الصديق رضي الله عنه،
نتعرف على طرف من ابتلائه وطرف من ثباته.
ثبات أبي بكر أمام فتنة المال
وقصدت
أن أبدأ بها؛ لأنها فتنة عظيمة، وكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى،
فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها، ويقول أحد الصحابة: ابتلينا
بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم نصبر.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ".
وإن
كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء، فهو أبو بكر الصديق رضي
الله عنه، لقد شاهدنا كثيرًا من المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في
الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة، ومواقف مشهودة، لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد
أن ينفق كل ماله في سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا، ليس مرة أو
مرتين يفعلها، ولكنه اعتاد الثبات على ذلك، ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه
رضي الله عنه في الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة
مكة، أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك، لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا
من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة:
- فها هو الصديق بعد
أن أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة، ويضع يده على بيت
المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال
المستديم، فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال، ثم ها هي فارس
تفتح، والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة، فماذا فعل
الصديق رضي الله عنه؟
ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة، ليس
الصديق الذي يتبدل، لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها
كذلك فعمل لها، فقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثًا
وضح فيه حجم الدنيا مقارنة بالآخرة، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ
مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ
إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ. يعني التي
تلي الإبهام".
ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس، ومن أجل هذا
لم يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا، ومرشده ومرشدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها نصب عينيه، روى مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ
الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ
فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا
النِّسَاءَ".
- أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة،
وعلى يده أبراد (والبُرد هو الثوب المخطط) فكان يحمل هذه الأبراد متجهًا
إلى السوق؛ ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله: أين تريد؟ قال:إلى السوق. قال عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين. قال: فمن أين أطعم عيالي؟
ولنتأمل،
يده على بيت المال بكامله، ويتساءل هذا السؤال! فأشار عليه أن يذهبا إلى
أبي عبيدة أمين بيت المال، ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له،
إلى هذه الشفافية في الضمير، والأمانة في اليد، والنقاء في النفس وصل
الصديق رضي الله عنه، ينزل إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى يطعم عياله،
وطبعًا عف الصديق، فعفت الرعية، لم نسمع عن وزير من وزراء، أو مستشار من
مستشاريه هرّب أمواله إلى بنوك فارس والروم.
- وانظروا إلى الصديق،
وهو على فراش الموت، بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني، انظروا إليه كيف
يقول وهو رأس الدولة التي دكت حصون فارس والروم، يقول مخاطبًا عائشة
رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم دينارًا، ولا
درهمًا، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم (يقصد الطعام البسيط) في بطوننا،
ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا
كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضب، وهذه القطيفة (كساء في
بيته رضي لله عنه)، فإذا مت فابعثي بهن (العبد الحبشي، والبعير الناضب،
والقطيفة) إلى عمر وابرأي منهن. تقول السيدة عائشة: ففعلت.
فلما
جاء الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر، بكى حتى جعلت دموعه تسيل في
الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَن بعده، رحم الله أبا بكر، لقد
أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وجاء في رواية
أخرى موقفًا آخر له عند الوفاة يصور مدى عفته وثباته، إذ قال: إن عمر لم
يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا
فيها.
يقصد أن عمر قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين، يرى
الصديق أنه كان كبيرًا، مع أنه لم يكن يكفي إلا الكفاف، كما ثبت في روايات
أخرى، فالآن سيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال.
فلما توفي الصديق ذُكِر ذلك لعمر فقال: رحم الله أبا بكر، لقد أحب أن لا يدع لأحد بعده مقالًا.
فتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه
فتنة
عظيمة هائلة مروعة، لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن
نشير فقط إلى ثبات الصديق رضي الله عنه، هذا الثبات الذي فاق كل تخيل، حتى
فاق تخيل الصحابة أنفسهم، والفتنة كانت هائلة، ارتدت جزيرة العرب بكاملها
إلا ثلاث مدن وقرية: مكة، والمدينة، والطائف، وقرية جواثا في منطقة هجر
بالبحرين، لا أقول عشرات الآلاف من المرتدين، بل مئات الآلاف، وليس فقط
بمنع الزكاة، بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في
دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة،
غلبة عظيمة لأهل الردة،
وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال
الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك، وأغلق
عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
يأس كامل في الإصلاح، وإحباط
يملأ القلوب، موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة، لكن الصديق رضي الله عنه
كان أعلم الصحابة، وأفقه الصحابة، وأثبت الصحابة، تحول الشيخ الكبير الرحيم
المتواضع ضعيف البنية إلى أسد هصور، عظيم الثورة، شديد البأس، عالي الهمة،
سريع النهضة، أصر على قتال المرتدين جميعًا وفي وقت متزامن، قال في شأن
مانعي الزكاة: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق
المال، والله لو منعوني عناقا (الأنثى من ولد الماعز) وفي رواية عقالًا
(وهو الحبل الذي يربط به البعير) كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على
منعها.
وقال في شأن بقية المرتدين، والذين يبلغون مئات الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي. أي: تقتطع عنقي.
بهذه
العزيمة، وهذه العقيدة، ولذا لما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي
الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل،
يقول عمر كما جاء في صحيح البخاري: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق.
وهكذا
أخرج الصديق رضي الله عنه الجيوش تلو الجيوش، أحد عشر جيشًا في ملحمة
خالدة، تضحيات عظيمة، تعب وجهد، ودم وشهادة، ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت
الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن، وأعز
الله الإسلام وأهله، وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا في عام واحد، عام واحد
فقط، والحمد لله رب العالمين.
ثبات أبي بكر في فتنة غلبة أهل فارس والروم
وفارس
والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض، يقتسمان العالم،
ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، دول متقدمة صاحبة حضارة، ومال، وعمران،
وجنات وأنهار، وأعداد لا تحصى من الرجال، وسلاح لا مثيل له في زمانهم،
وأعوان في كل بقاع الأرض، وتاريخ في الحروب، وتنظيماتها، وخططها، وطرقها،
الصديق رضي الله عنه في الطرف الآخر يحكم دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب،
لم تتعود على الحروب النظامية، فقيرة الموارد، ضعيفة السلاح قليلة العدد،
ليس هذا فقط، ولكنها لم تنفض يدها بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر
واليابس، تلك هي حروب الردة،
يخرج الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة أقوى من الجبال، ولا تهزه عروش
كسرى وقيصر، ويأخذ قرارًا عجيبًا، وهو فتح فارس، وذلك بعد أقل من شهر على
انتهاء حروب الردة،
ثم يتبعه بقرار آخر أعجب بعد خمسة شهور، وهو فتح الشام، وقتال الروم في
وقت متزامن مع قتال الفرس، وكما فصلنا من قبل، فالصديق كان على يقين من
النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك في أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض
معاركه بهذه الروح، وكتب الله له النصر بعد جهاد طويل، ومعارك هائلة، وضع
فيها الصديق رضي الله عنه خططًا عبقرية، وقال فيها أراءً سديدة وفعل فيها
أعمالًا مجيدة.
ثبات أبي بكر على فتنة الطاعة والعبادة
وقد
يظن ظان أن هذا الأمر بسيط، وهين إلى جوار غيره من الفتن التي تعرضنا
لذكرها آنفًا، فتن المال، والرئاسة، والأولاد، والإيذاء، وضياع النفس، وترك
الديار، وغلبة أهل الباطل، قد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة
سيثبت حتمًا في أمر الطاعة، والعبادة، فهي أمور في يد كل مسلم، يستطيع أن
يصلي ويصوم ويزكي، بديهيات عند كثير من الناس، لكن هذه لمن أعظم الفتن، قد
يسهل على الإنسان أن يفعل شيئًا عظيمًا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث في
حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم كل يوم، بلا كلل ولا ملل ولا
كسل، فإن هذا يحتاج إلى قلب عظيم، وإيمان كبير، وعقل متيقظ ومنتبه، لا
يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال، وقد كان الصديق رضي الله عنه سيد هذا
القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ
أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا
عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ
مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ
بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابَ
الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ
الرَّيَانِ".
فبعض الناس يكون مكثر في الصلاة، فيدخل من باب الصلاة، وهكذا.
قال أبو بكر رضي الله عنه: مـا على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
ذلك
أن الصديق رضي الله عنه كان مكثرًا، وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، ومر
بنا من قبل كيف أنه أصبح صائمًا ومتبعًا لجنازة وعائدًا لمريض ومتصدقًا
على مسكين؟ هكذا حياته كلها لا قعود، ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرج
جدًا من فوات فضيلة أو نافلة، روى أحمد، وأبو داود، والحاكم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:
"مَتَى تُوتِرُ؟" قال: أول الليل بعد العتمة. أي: بعد صلاة العشاء، قال: "فَأَنْتَ يَا عُمَرُ؟" قال:آخر الليل. قال: "أَمَا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَأَخَذْتَ بِالثِّقَةِ". أي: بالحزم، والحيطة مخافة أن يفوت الوتر. "وَأَمَا أَنْتَ يَا عُمَرُ فَأَخَذْتَ بِالْقُوَّةِ".
أي: بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع الفجر؛ لصلاة قيام الليل، ثم الوتر.
فالصديق رضي الله عنه لا يتخيل أن يفوته الوتر، ماذا يحدث لو استيقظ على
صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟
في حقه تكون كارثة، لذلك يأخذ نفسه
بالحزم يصليه أول الليل، ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ، ويصلي قيام الليل
صلى، ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب
رضي الله عنه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ الفجر
ليصلي، منهجان مختلفان، ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين، ومع حرصه، وطاعته، ومثابرته، وثباته على أمر الدين كان شديد
التواضع، لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، كان يقول: والله،
لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
وروى الحاكم عن معاذ بن جبل
رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر الصديق حائطًا (حديقة) وإذا بطائر في ظل
شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير، تأكل من الشجر،
وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك.
وكان يقول
إذا مُدح: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني
خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
رضي الله عن الصديق، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
ثبات أبي بكر أمام فتنة الموت
والموت
فتنة عظيمة، والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة، إلا
أن الصديق رضي الله عنه، كان كما عودنا رابط الجأش، مطمئن القلب، ثابت
القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته:
- مر بنا موقفه من وفاة ابنه عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيدًا، وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم، وبرضا واسع.
- وماتت أيضًا زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان
رضي الله عنها، والدة السيدة عائشة رضي الله عنها، وعبد الرحمن بن أبي بكر
رضي الله عنه، ماتت في السنة السادسة من الهجرة في المدينة، بعد رحلة
طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة
والتعب، والإنفاق، والإجهاد، والهجرة، والنصرة، والجهاد، والنزال، كانت خير
المعين لزوجها الصديق رضي الله عنه، ثم ماتت، وفارقت، وفراق الأحبة أليم،
لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبرًا جميلًا، وحمد واسترجع.
- ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه، مات حمزة بن عبد المطلب، ومات مصعب بن عمير،
ومات أسعد بن زرارة، ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر بن أبي طالب، ومات زيد
بن حارثة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها
السماوات والأرض فانتظر الصديق رضي الله عنه صابرًا غير مبدل: {مِنَ
المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] .
-
وجاءت فتنة كبيرة، فتنة موته هو شخصيًا رضي الله عنه وأرضاه، ونام على
فراش لا بد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته
الأخيرة؟
ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟
ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟
هل جزع أو اهتز؟
حاشا لله، إنه الصديق رضي الله عنها وأرضاه، ها هو على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في ثبات، وثقة، واطمئنان: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله
عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار.
يحذره من التسويف، وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في حياته.
وأنه
لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم
القيامة، باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه
الحق غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة،
باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل
غدًا أن يكون خفيفًا، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز
عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني أخاف ألا ألحق بهم.
وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء.
ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه.
انظر إلى صدق الوصية، وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمة
ثم
انظر إلى هذا الموقف العجيب، وهو ما يزال على فراش الموت، استقبل المثنى
بن حارثة رضي الله عنه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه
يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة
موته، ولا تصده آلام المرض، وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا، وإذا بقلبه
ما زال مؤمنًا نقيًا، وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون، أسرع
يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال:
اسمع
يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا
مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن
أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوَفّى رسول الله وما صنعت، ولم
يُصَب الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام،
فاردد أصحاب خالد إلى العراق (سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من
العراق إلى الشام)، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم
والجراءة عليهم.
أرأيت عبد الله كيف يكون الصديق رضي الله عنه وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟
لم ينس الجهاد، ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيت كيف أنه وحتى اللحظة الأخيرة في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟
هذا هو الصديق الذي عرفناه.
ودخلت
عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في آخر اللحظات، ونفسه
تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من الشعر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي
لا يغني المال عن الإنسان إذا جاء لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه
أن تكون قالت ما قالت ضجرًا، أو اعتراضًا، فتقول عائشة رضي الله عنها، فنظر
إلى كالغضبان، ثم قال في لطف:
ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
هكذا
ما زال يربي ويعلم، ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها، وأمر
أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال:
إن الحي أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.
هكذا
بهذا الثبات العظيم، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها،
وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم به الصديق
في هذه الدنيا قول الله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] .
غير
أنه مع كل ما سبق من فتن عرضت للصديق في حياته إلى لحظة موته، فإن كل هذه
الفتن تهون، وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة العظمى، والبلية الكبرى، والمصيبة
القصوى التي لحقت به وبالمسلمين، لما مات ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر،
وسيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله، لما مات النور المبين الذي أضاء
الأرض بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته، لما مات رسول الله محمد صلى الله عليه
وسلم.
أعظم فتنة مرت بالصديق رضي الله عنه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة
رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله على الصديق رضي الله عنه أنه
مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح رؤية يقابل الفتنة، وبنفاذ بصيرة
يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين.
وفي موضوع
ثبات الصديق رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الصديق رضي
الله عنه جملة قصيرة لكن عظيمة المعاني قال: كان الصديق رضي الله عنه
كالجبل، لا تحركه القواصف، ولا تُزيله العواصف.
ثبات أبي بكر الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب
فتنة
الرئاسة فتنة عظيمة، وابتلاء كبير، وكثير من الناس يعيش حياة التواضع،
فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل، وتكبر، فتنة عظيمة، وانظر إلى الحسن
البصري يقول في كلمة عظيمة له: وآخر ما يُنزع من قلوب الصالحين، حب
الرئاسة.
أما الصديق رضي الله عنه، فإنه قد نزع منه حب الرئاسة منذ
البداية، كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة، وهذا القدر تضاعف
أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا:
إن أعظم خلفاء
الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه. والله لقد فعل أشياء
يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ولولا اليقين في بشريته
لكانت شبيهة بأفعال الملائكة، هو قد سمع من حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم
الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه: "مَا
مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ
وَيَنْصَحُ لَهُمْ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ".
والصديق
جهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح، ولذا فهو ليس فقط
يدخل الجنة معهم، بل يسبقهم إليها، كيف يتكبر الصديق، وهو الذي كان حريصًا
طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته، وكان يتحرى ذلك
حتى في ظاهره، يروي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وقعت
الكلمات في قلب أبي بكر، وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، أسرع
الصديق رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله،
إن إزاري يسترخي إلا أن تعاهده.
أشعر أنه قالها، وهو يرتجف، ويخشى
من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أثلج صدره وطمأنه، ووضح له متى يكون استرخاء الإزار منهيًا عنه، قال: "إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ".
شهادة
من سيد الخلق، وممن لا ينطق عن الهوى، إن الصديق لا يفعل ذلك خيلاء، وكان
من الممكن أن يقول له إنك لست متعمدًا للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى
الحقيقة المجردة، تواضع الصديق رضي الله عنه.
وإلى مواقف من حياة الصديق كخليفة ورئيس وحاكم.
ذكرنا
بعض المواقف له في السابق، ذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما،
قبل ذلك وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال، والآن نذكر بعض مواقفه الأخرى:
-
موقف عجيب من مواقف الخليفة الرئيس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان
الصديق رضي الله عنه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، فتعود أن يحلب
للضعفاء أغنامهم كرمًا منه، وذلك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هو
الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جارية تقول بعد مبايعته
بالخلافة: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا. فسمعها الصديق رضي الله عنه
فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم. فكان يحلبها، وربما سأل صاحبتها: يا جارية
أتجدين أن أرغي لك أو أصرح؟. أي: يجعل اللبن برغوة، أم بدون رغوة، فربما
قالت: أرغ. وربما قالت: صرّح. فأي ذلك قالته فعل.
- موقف آخر أغرب،
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواش
المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد
سبقه إليها، فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده
عمر، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة فقال عمر: أنت هو
لعمري.
وكان من الممكن أن يكلف رجلا للقيام بذلك، ولكنه الصديق، يشعر
بالمسئولية تجاه كل فرد من أفراد الأمة، كما أنه رضي الله عنه قد آثر أن
يخدمها بنفسه، يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه على ألا يتكبر
حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
- أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم الجمعة فقال:
إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن.
صدقات
الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر الصديق، فوضعوها في مكان، وسيدخل في
اليوم التالي أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، ليقسما هذه الصدقات، فسيدنا
أبو بكر يحذر الناس، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الحظام لعل الله يرزقنا
جملًا.
فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل، فدخل معهما،
هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة لخليفة البلاد، ودخل عليه بغير إذن، مع كونه
نبه على ذلك، فالتفت إليه أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه
الحظام، فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل، فأعطاه الحظام،
وقال: استقد. أي: اقتص مني، كما ضربتك اضربني، سبحان الله، فقال عمر رضي
الله عنه: والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة.
يعني كلما أخطأ خليفة في
حق واحد من الرعية، قام المظلوم بضرب الأمير فتضيع هيبته، فقال الصديق رضي
الله عنه: فمن لي من الله يوم القيامة؟ فقال عمر: أَرْضِهِ. فأمر أبو بكر
غلامه أن يأتيه براحلة، ورحلها وقطيفة (أي كساء)، وخمسة دنانير، فأرضاه
بها.
هذا خليفة البلاد، وقد ضرب أحد رعاياه ضربة واحدة فقط، ولكنه
يريد أن يُضْرب مكان هذا السوط الذي ضرب، حتى يقف أمام الله عز وجل يوم
القيامة خالصًا، ليس لأحد عنده شيء.
- بل اقرأ وصيته إلى جيوشه، وهي
تخرج لحرب الروم، في بعث أسامة بن زيد، ثم بعد ذلك إلى فتح فارس، ثم إلى
فتح الروم، كان يوصيها بوصايا عجيبة، وكأنه يوصي بأصدقاء، وليس بأعداء، كان
يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم كان مما قال لهم:
لا تخونوا، ولا
تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة،
ولا بقرة، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في
الصوامع، فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له.
وتأمل معي يا أخي، أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟!
والله ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام، ورقي الإسلام، ونور الإسلام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أين هذا من حروب الشرق والغرب؟
أين هذا من حروب غير المسلمين؟
فالمسلمون قد علّموا غيرهم الرحمة في كل شيء حتى في الحرب.
ثبات أبي بكر أمام فتنة الأولاد
فالمرء
قد يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة، إذا كان الأمر يخصه هو شخصيًا، ولكن إذا
ارتبط الأمر بأولاده، فإنه قد يتردد كثيرًا، فغالبًا ما يحب الرجل أولاده
أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد، ورقتهم، واعتمادهم على الأبوين، يعطي
مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، واقرأ قول
الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ
تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] .
روى
الترمذي، وقال: حسن صحيح. أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه
الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم، فأبى أزواجهم، وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، رأوا الناس قد
فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوهم (أي يعاقبوا أولادهم)، فأنزل الله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] .
الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن تقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
هكذا بهذا التصريح، التقرير الواضح: إنما أموالكم وأولادكم فتنة.
أين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات؟
القضية
كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه، وأوراقه كانت مرتبة
تمامًا، الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونصرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم مقدمة على كل شيء، والصديق مع رقة قلبه، وعاطفته الجياشة، ومع تمام
رأفته مع أولاده، كان لا يقدم أحدًا منهم، مهما تغيرت الظروف على دعوته،
وجهاده، وما فتن بهم لحظة.
- أعلن الدعوة مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مكة، ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن
يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغارًا ضعافًا، محتاجين في وسط
الكفار المتربصين، كان يجاهد، ويعلم أنه إذا أراد الحماية للذرية الضعيفة
أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة، وكلمة الحق أيًا كانت
العوائق {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] .
-
لما هاجر الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح، لأنه
سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر، مخلفًا وراءه
ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشًا ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث،
وضرب أبو جهل لعنه الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، فسال الدم منها،
ما رأى الصديق كل ذلك، كل ما رآه هو نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريق
الله عز وجل، ليس هذا فقط ولكنه حمل معه كل أمواله، كل ما تبقى بعد
الإنفاق العظيم، خمسة آلاف درهم حملها جميعًا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، وماذا ترك لأهله؟
ترك لهم الله ورسوله، يقين عجيب، وثبات يقرب
من ثبات الأنبياء، أبو قحافة
لما علم الله عز وجل من الصديق إيمانًا عميقًا في قلبه، ويقينًا صادقًا
في عقله، وعملًا صالحًا في كل جوارحه. لما رأى منه حبًا جارفًا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل، واتباع دقيق، ولما اطلع على قلبه
فوجده رقيقًا حانيًا عطوفًا، ووجد خلقه حسنًا رفيعًا عاليًا، ولما علم منه
سبقًا إلى الخيرات، ومسارعة إلى الحسنات وحسمًا وعزمًا في كل أمور حياته،
ولما رأى منه عطاءً ثم عطاء .. لما رأى منه كل ذلك وغيره، أنعم عليه بنعمة
عظيمة وهِبة جليلة، أنعم عليه بنعمة الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات
على الإيمان، وعلى الإسلام، الثبات على الطاعة وحسن الخلق، الثبات على
العطاء، الثبات أمام الفتن، كل الفتن صغيرة كانت أو كبيرة، دقيقة كانت أم
عظيمة، خفية كانت أم ظاهرة.
والثبات شيء صعب وعسير، الإنسان قد ينشط في فترة من الفترات، ولكنه سرعان ما يفتر، قد يقوى في زمان، لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ
لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ
فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ".
ولكن العجيب في حياة
الصديق رضي الله عنه أن ترى ثباتًا في كل الفضائل، وفي كل المواقف منذ
أسلم، وحتى مات، مهما تغيرت الظروف والأحوال، والثبات فعلًا شيء عسير،
الدنيا من طبيعتها التقلب، من النادر أن تجد فيها شيئًا ثابتًا، كما قالوا
قديمًا: دوام الحال من المحال، يقول سبحانه: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ}[النور:44]، وفي موضع آخر يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
ويقول في موضع ثالث: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلَا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] .
هكذا
الإنسان دائمًا في تقلب، والأرض كذلك دائمًا في تقلب، والقلب أيضًا كذلك،
كثير التقلب، بل قيل: إن القلب سمي قلبًا؛ لأنه سريع التقلب.
روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ". فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نَعَمْ، "إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ".
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ".
ويزداد
الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حوله، فقلب قد يثبت على حاله من
الغنى، فإذا افتقر الإنسان فتن، وقلب قد يثبت على حاله من الفقر، فإذا
اغتنى الإنسان فتن، قد يثبت في بلد، ويفتن في آخر، قد يثبت في عمل، ويفتن
في آخر، قد يثبت في سن، ويفتن في سن آخر، بل قد يثبت في نهار، ويفتن في
ليل، بل قد يثبت لحظة، ويفتن في لحظة تالية، والإنسان في هذه الدنيا ليس
متروكًا في حاله، كثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه، الشيطان لا يهدأ ولا
يستكين، قال تعالى: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ
شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
فالدنيا مجموعة متراكمة من الفتن، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [فاطر:5].
ونفس الإنسان تُغير كثيرًا من قلبه، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].
وشياطين
الإنس أحيانًا ما يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن، وبين كل هذه المتقلبات
يعيش القلب، فكيف لا يتقلب؟ وهو القلب المشهور بالتقلب، والقلب إن كان
ضعيف الإيمان فتقلبه خطير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الحج:11].
والنجاة
من التقلب عسيرة إلا إذا مَنّ الله بها على عبده، والله لا يَمُنّ بالثبات
على عبد خامل كسلان، بل لا بد أن يقدم شيئًا، اسمع إلى قوله عز وجل: {لَا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إذن
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لصيقًا دقيقًا يقي الإنسان شر
الفتن، أو قل: يجعل الإنسان أهلًا أن يَمُنّ الله عليه بنعمة الثبات، جميع
الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم، اقرأ إن شئت كلام الله
سبحانه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].
واقرأ معي قوله تعالى: {يُثَبِّتُ
اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا
يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وأكثر
المسلمين اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق
رضي الله عنه، وأكثر المسلمين تلقيًا لتثبيـت الله بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا، حياته عجيبة رضي الله
عنه وأرضاه، كم من الفتن عرض عليه، وكم من الثبات قدم رضي الله عنه، روى
الترمذي وغيره حديثًا وقال: حديث حسن. يفسر لنا هذه الفتن الكثيرة التي
عرضت للصديق رضي الله عنه في حياته، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الْأَنْبِيَاءُ،
ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ
دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ
فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ
الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يُتْرُكُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا
عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ".
ولكون الصديق هو الأمثل في الإيمان، بعد
الأنبياء، فإن ابتلاءه كان شديدًا. ولنتجول في حياة الصديق رضي الله عنه،
نتعرف على طرف من ابتلائه وطرف من ثباته.
ثبات أبي بكر أمام فتنة المال
وقصدت
أن أبدأ بها؛ لأنها فتنة عظيمة، وكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى،
فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها، ويقول أحد الصحابة: ابتلينا
بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم نصبر.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ".
وإن
كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء، فهو أبو بكر الصديق رضي
الله عنه، لقد شاهدنا كثيرًا من المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في
الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة، ومواقف مشهودة، لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد
أن ينفق كل ماله في سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا، ليس مرة أو
مرتين يفعلها، ولكنه اعتاد الثبات على ذلك، ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه
رضي الله عنه في الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة
مكة، أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك، لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا
من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة:
- فها هو الصديق بعد
أن أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة، ويضع يده على بيت
المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال
المستديم، فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال، ثم ها هي فارس
تفتح، والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة، فماذا فعل
الصديق رضي الله عنه؟
ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة، ليس
الصديق الذي يتبدل، لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها
كذلك فعمل لها، فقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثًا
وضح فيه حجم الدنيا مقارنة بالآخرة، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ
مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ
إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ. يعني التي
تلي الإبهام".
ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس، ومن أجل هذا
لم يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا، ومرشده ومرشدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها نصب عينيه، روى مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ
الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ
فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا
النِّسَاءَ".
- أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة،
وعلى يده أبراد (والبُرد هو الثوب المخطط) فكان يحمل هذه الأبراد متجهًا
إلى السوق؛ ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله: أين تريد؟ قال:إلى السوق. قال عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين. قال: فمن أين أطعم عيالي؟
ولنتأمل،
يده على بيت المال بكامله، ويتساءل هذا السؤال! فأشار عليه أن يذهبا إلى
أبي عبيدة أمين بيت المال، ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له،
إلى هذه الشفافية في الضمير، والأمانة في اليد، والنقاء في النفس وصل
الصديق رضي الله عنه، ينزل إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى يطعم عياله،
وطبعًا عف الصديق، فعفت الرعية، لم نسمع عن وزير من وزراء، أو مستشار من
مستشاريه هرّب أمواله إلى بنوك فارس والروم.
- وانظروا إلى الصديق،
وهو على فراش الموت، بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني، انظروا إليه كيف
يقول وهو رأس الدولة التي دكت حصون فارس والروم، يقول مخاطبًا عائشة
رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم دينارًا، ولا
درهمًا، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم (يقصد الطعام البسيط) في بطوننا،
ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا
كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضب، وهذه القطيفة (كساء في
بيته رضي لله عنه)، فإذا مت فابعثي بهن (العبد الحبشي، والبعير الناضب،
والقطيفة) إلى عمر وابرأي منهن. تقول السيدة عائشة: ففعلت.
فلما
جاء الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر، بكى حتى جعلت دموعه تسيل في
الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَن بعده، رحم الله أبا بكر، لقد
أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وجاء في رواية
أخرى موقفًا آخر له عند الوفاة يصور مدى عفته وثباته، إذ قال: إن عمر لم
يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا
فيها.
يقصد أن عمر قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين، يرى
الصديق أنه كان كبيرًا، مع أنه لم يكن يكفي إلا الكفاف، كما ثبت في روايات
أخرى، فالآن سيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال.
فلما توفي الصديق ذُكِر ذلك لعمر فقال: رحم الله أبا بكر، لقد أحب أن لا يدع لأحد بعده مقالًا.
فتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه
فتنة
عظيمة هائلة مروعة، لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن
نشير فقط إلى ثبات الصديق رضي الله عنه، هذا الثبات الذي فاق كل تخيل، حتى
فاق تخيل الصحابة أنفسهم، والفتنة كانت هائلة، ارتدت جزيرة العرب بكاملها
إلا ثلاث مدن وقرية: مكة، والمدينة، والطائف، وقرية جواثا في منطقة هجر
بالبحرين، لا أقول عشرات الآلاف من المرتدين، بل مئات الآلاف، وليس فقط
بمنع الزكاة، بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في
دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة،
غلبة عظيمة لأهل الردة،
وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال
الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك، وأغلق
عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
يأس كامل في الإصلاح، وإحباط
يملأ القلوب، موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة، لكن الصديق رضي الله عنه
كان أعلم الصحابة، وأفقه الصحابة، وأثبت الصحابة، تحول الشيخ الكبير الرحيم
المتواضع ضعيف البنية إلى أسد هصور، عظيم الثورة، شديد البأس، عالي الهمة،
سريع النهضة، أصر على قتال المرتدين جميعًا وفي وقت متزامن، قال في شأن
مانعي الزكاة: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق
المال، والله لو منعوني عناقا (الأنثى من ولد الماعز) وفي رواية عقالًا
(وهو الحبل الذي يربط به البعير) كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على
منعها.
وقال في شأن بقية المرتدين، والذين يبلغون مئات الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي. أي: تقتطع عنقي.
بهذه
العزيمة، وهذه العقيدة، ولذا لما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي
الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل،
يقول عمر كما جاء في صحيح البخاري: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق.
وهكذا
أخرج الصديق رضي الله عنه الجيوش تلو الجيوش، أحد عشر جيشًا في ملحمة
خالدة، تضحيات عظيمة، تعب وجهد، ودم وشهادة، ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت
الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن، وأعز
الله الإسلام وأهله، وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا في عام واحد، عام واحد
فقط، والحمد لله رب العالمين.
ثبات أبي بكر في فتنة غلبة أهل فارس والروم
وفارس
والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض، يقتسمان العالم،
ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، دول متقدمة صاحبة حضارة، ومال، وعمران،
وجنات وأنهار، وأعداد لا تحصى من الرجال، وسلاح لا مثيل له في زمانهم،
وأعوان في كل بقاع الأرض، وتاريخ في الحروب، وتنظيماتها، وخططها، وطرقها،
الصديق رضي الله عنه في الطرف الآخر يحكم دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب،
لم تتعود على الحروب النظامية، فقيرة الموارد، ضعيفة السلاح قليلة العدد،
ليس هذا فقط، ولكنها لم تنفض يدها بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر
واليابس، تلك هي حروب الردة،
يخرج الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة أقوى من الجبال، ولا تهزه عروش
كسرى وقيصر، ويأخذ قرارًا عجيبًا، وهو فتح فارس، وذلك بعد أقل من شهر على
انتهاء حروب الردة،
ثم يتبعه بقرار آخر أعجب بعد خمسة شهور، وهو فتح الشام، وقتال الروم في
وقت متزامن مع قتال الفرس، وكما فصلنا من قبل، فالصديق كان على يقين من
النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك في أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض
معاركه بهذه الروح، وكتب الله له النصر بعد جهاد طويل، ومعارك هائلة، وضع
فيها الصديق رضي الله عنه خططًا عبقرية، وقال فيها أراءً سديدة وفعل فيها
أعمالًا مجيدة.
ثبات أبي بكر على فتنة الطاعة والعبادة
وقد
يظن ظان أن هذا الأمر بسيط، وهين إلى جوار غيره من الفتن التي تعرضنا
لذكرها آنفًا، فتن المال، والرئاسة، والأولاد، والإيذاء، وضياع النفس، وترك
الديار، وغلبة أهل الباطل، قد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة
سيثبت حتمًا في أمر الطاعة، والعبادة، فهي أمور في يد كل مسلم، يستطيع أن
يصلي ويصوم ويزكي، بديهيات عند كثير من الناس، لكن هذه لمن أعظم الفتن، قد
يسهل على الإنسان أن يفعل شيئًا عظيمًا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث في
حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم كل يوم، بلا كلل ولا ملل ولا
كسل، فإن هذا يحتاج إلى قلب عظيم، وإيمان كبير، وعقل متيقظ ومنتبه، لا
يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال، وقد كان الصديق رضي الله عنه سيد هذا
القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ
أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا
عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ
مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ
بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابَ
الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ
الرَّيَانِ".
فبعض الناس يكون مكثر في الصلاة، فيدخل من باب الصلاة، وهكذا.
قال أبو بكر رضي الله عنه: مـا على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
ذلك
أن الصديق رضي الله عنه كان مكثرًا، وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، ومر
بنا من قبل كيف أنه أصبح صائمًا ومتبعًا لجنازة وعائدًا لمريض ومتصدقًا
على مسكين؟ هكذا حياته كلها لا قعود، ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرج
جدًا من فوات فضيلة أو نافلة، روى أحمد، وأبو داود، والحاكم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:
"مَتَى تُوتِرُ؟" قال: أول الليل بعد العتمة. أي: بعد صلاة العشاء، قال: "فَأَنْتَ يَا عُمَرُ؟" قال:آخر الليل. قال: "أَمَا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَأَخَذْتَ بِالثِّقَةِ". أي: بالحزم، والحيطة مخافة أن يفوت الوتر. "وَأَمَا أَنْتَ يَا عُمَرُ فَأَخَذْتَ بِالْقُوَّةِ".
أي: بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع الفجر؛ لصلاة قيام الليل، ثم الوتر.
فالصديق رضي الله عنه لا يتخيل أن يفوته الوتر، ماذا يحدث لو استيقظ على
صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟
في حقه تكون كارثة، لذلك يأخذ نفسه
بالحزم يصليه أول الليل، ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ، ويصلي قيام الليل
صلى، ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب
رضي الله عنه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ الفجر
ليصلي، منهجان مختلفان، ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين، ومع حرصه، وطاعته، ومثابرته، وثباته على أمر الدين كان شديد
التواضع، لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، كان يقول: والله،
لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
وروى الحاكم عن معاذ بن جبل
رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر الصديق حائطًا (حديقة) وإذا بطائر في ظل
شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير، تأكل من الشجر،
وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك.
وكان يقول
إذا مُدح: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني
خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
رضي الله عن الصديق، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
ثبات أبي بكر أمام فتنة الموت
والموت
فتنة عظيمة، والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة، إلا
أن الصديق رضي الله عنه، كان كما عودنا رابط الجأش، مطمئن القلب، ثابت
القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته:
- مر بنا موقفه من وفاة ابنه عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيدًا، وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم، وبرضا واسع.
- وماتت أيضًا زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان
رضي الله عنها، والدة السيدة عائشة رضي الله عنها، وعبد الرحمن بن أبي بكر
رضي الله عنه، ماتت في السنة السادسة من الهجرة في المدينة، بعد رحلة
طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة
والتعب، والإنفاق، والإجهاد، والهجرة، والنصرة، والجهاد، والنزال، كانت خير
المعين لزوجها الصديق رضي الله عنه، ثم ماتت، وفارقت، وفراق الأحبة أليم،
لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبرًا جميلًا، وحمد واسترجع.
- ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه، مات حمزة بن عبد المطلب، ومات مصعب بن عمير،
ومات أسعد بن زرارة، ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر بن أبي طالب، ومات زيد
بن حارثة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها
السماوات والأرض فانتظر الصديق رضي الله عنه صابرًا غير مبدل: {مِنَ
المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] .
-
وجاءت فتنة كبيرة، فتنة موته هو شخصيًا رضي الله عنه وأرضاه، ونام على
فراش لا بد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته
الأخيرة؟
ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟
ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟
هل جزع أو اهتز؟
حاشا لله، إنه الصديق رضي الله عنها وأرضاه، ها هو على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في ثبات، وثقة، واطمئنان: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله
عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار.
يحذره من التسويف، وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في حياته.
وأنه
لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم
القيامة، باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه
الحق غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة،
باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل
غدًا أن يكون خفيفًا، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز
عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني أخاف ألا ألحق بهم.
وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء.
ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه.
انظر إلى صدق الوصية، وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمة
ثم
انظر إلى هذا الموقف العجيب، وهو ما يزال على فراش الموت، استقبل المثنى
بن حارثة رضي الله عنه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه
يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة
موته، ولا تصده آلام المرض، وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا، وإذا بقلبه
ما زال مؤمنًا نقيًا، وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون، أسرع
يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال:
اسمع
يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا
مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن
أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوَفّى رسول الله وما صنعت، ولم
يُصَب الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام،
فاردد أصحاب خالد إلى العراق (سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من
العراق إلى الشام)، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم
والجراءة عليهم.
أرأيت عبد الله كيف يكون الصديق رضي الله عنه وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟
لم ينس الجهاد، ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيت كيف أنه وحتى اللحظة الأخيرة في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟
هذا هو الصديق الذي عرفناه.
ودخلت
عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في آخر اللحظات، ونفسه
تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من الشعر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي
لا يغني المال عن الإنسان إذا جاء لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه
أن تكون قالت ما قالت ضجرًا، أو اعتراضًا، فتقول عائشة رضي الله عنها، فنظر
إلى كالغضبان، ثم قال في لطف:
ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
هكذا
ما زال يربي ويعلم، ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها، وأمر
أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال:
إن الحي أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.
هكذا
بهذا الثبات العظيم، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها،
وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم به الصديق
في هذه الدنيا قول الله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] .
غير
أنه مع كل ما سبق من فتن عرضت للصديق في حياته إلى لحظة موته، فإن كل هذه
الفتن تهون، وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة العظمى، والبلية الكبرى، والمصيبة
القصوى التي لحقت به وبالمسلمين، لما مات ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر،
وسيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله، لما مات النور المبين الذي أضاء
الأرض بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته، لما مات رسول الله محمد صلى الله عليه
وسلم.
أعظم فتنة مرت بالصديق رضي الله عنه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة
رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله على الصديق رضي الله عنه أنه
مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح رؤية يقابل الفتنة، وبنفاذ بصيرة
يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين.
وفي موضوع
ثبات الصديق رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الصديق رضي
الله عنه جملة قصيرة لكن عظيمة المعاني قال: كان الصديق رضي الله عنه
كالجبل، لا تحركه القواصف، ولا تُزيله العواصف.
ثبات أبي بكر الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب
فتنة
الرئاسة فتنة عظيمة، وابتلاء كبير، وكثير من الناس يعيش حياة التواضع،
فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل، وتكبر، فتنة عظيمة، وانظر إلى الحسن
البصري يقول في كلمة عظيمة له: وآخر ما يُنزع من قلوب الصالحين، حب
الرئاسة.
أما الصديق رضي الله عنه، فإنه قد نزع منه حب الرئاسة منذ
البداية، كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة، وهذا القدر تضاعف
أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا:
إن أعظم خلفاء
الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه. والله لقد فعل أشياء
يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ولولا اليقين في بشريته
لكانت شبيهة بأفعال الملائكة، هو قد سمع من حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم
الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه: "مَا
مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ
وَيَنْصَحُ لَهُمْ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ".
والصديق
جهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح، ولذا فهو ليس فقط
يدخل الجنة معهم، بل يسبقهم إليها، كيف يتكبر الصديق، وهو الذي كان حريصًا
طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته، وكان يتحرى ذلك
حتى في ظاهره، يروي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وقعت
الكلمات في قلب أبي بكر، وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، أسرع
الصديق رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله،
إن إزاري يسترخي إلا أن تعاهده.
أشعر أنه قالها، وهو يرتجف، ويخشى
من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أثلج صدره وطمأنه، ووضح له متى يكون استرخاء الإزار منهيًا عنه، قال: "إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ".
شهادة
من سيد الخلق، وممن لا ينطق عن الهوى، إن الصديق لا يفعل ذلك خيلاء، وكان
من الممكن أن يقول له إنك لست متعمدًا للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى
الحقيقة المجردة، تواضع الصديق رضي الله عنه.
وإلى مواقف من حياة الصديق كخليفة ورئيس وحاكم.
ذكرنا
بعض المواقف له في السابق، ذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما،
قبل ذلك وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال، والآن نذكر بعض مواقفه الأخرى:
-
موقف عجيب من مواقف الخليفة الرئيس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان
الصديق رضي الله عنه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، فتعود أن يحلب
للضعفاء أغنامهم كرمًا منه، وذلك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هو
الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جارية تقول بعد مبايعته
بالخلافة: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا. فسمعها الصديق رضي الله عنه
فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم. فكان يحلبها، وربما سأل صاحبتها: يا جارية
أتجدين أن أرغي لك أو أصرح؟. أي: يجعل اللبن برغوة، أم بدون رغوة، فربما
قالت: أرغ. وربما قالت: صرّح. فأي ذلك قالته فعل.
- موقف آخر أغرب،
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواش
المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد
سبقه إليها، فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده
عمر، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة فقال عمر: أنت هو
لعمري.
وكان من الممكن أن يكلف رجلا للقيام بذلك، ولكنه الصديق، يشعر
بالمسئولية تجاه كل فرد من أفراد الأمة، كما أنه رضي الله عنه قد آثر أن
يخدمها بنفسه، يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه على ألا يتكبر
حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
- أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم الجمعة فقال:
إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن.
صدقات
الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر الصديق، فوضعوها في مكان، وسيدخل في
اليوم التالي أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، ليقسما هذه الصدقات، فسيدنا
أبو بكر يحذر الناس، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الحظام لعل الله يرزقنا
جملًا.
فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل، فدخل معهما،
هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة لخليفة البلاد، ودخل عليه بغير إذن، مع كونه
نبه على ذلك، فالتفت إليه أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه
الحظام، فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل، فأعطاه الحظام،
وقال: استقد. أي: اقتص مني، كما ضربتك اضربني، سبحان الله، فقال عمر رضي
الله عنه: والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة.
يعني كلما أخطأ خليفة في
حق واحد من الرعية، قام المظلوم بضرب الأمير فتضيع هيبته، فقال الصديق رضي
الله عنه: فمن لي من الله يوم القيامة؟ فقال عمر: أَرْضِهِ. فأمر أبو بكر
غلامه أن يأتيه براحلة، ورحلها وقطيفة (أي كساء)، وخمسة دنانير، فأرضاه
بها.
هذا خليفة البلاد، وقد ضرب أحد رعاياه ضربة واحدة فقط، ولكنه
يريد أن يُضْرب مكان هذا السوط الذي ضرب، حتى يقف أمام الله عز وجل يوم
القيامة خالصًا، ليس لأحد عنده شيء.
- بل اقرأ وصيته إلى جيوشه، وهي
تخرج لحرب الروم، في بعث أسامة بن زيد، ثم بعد ذلك إلى فتح فارس، ثم إلى
فتح الروم، كان يوصيها بوصايا عجيبة، وكأنه يوصي بأصدقاء، وليس بأعداء، كان
يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم كان مما قال لهم:
لا تخونوا، ولا
تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة،
ولا بقرة، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في
الصوامع، فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له.
وتأمل معي يا أخي، أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟!
والله ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام، ورقي الإسلام، ونور الإسلام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أين هذا من حروب الشرق والغرب؟
أين هذا من حروب غير المسلمين؟
فالمسلمون قد علّموا غيرهم الرحمة في كل شيء حتى في الحرب.
ثبات أبي بكر أمام فتنة الأولاد
فالمرء
قد يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة، إذا كان الأمر يخصه هو شخصيًا، ولكن إذا
ارتبط الأمر بأولاده، فإنه قد يتردد كثيرًا، فغالبًا ما يحب الرجل أولاده
أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد، ورقتهم، واعتمادهم على الأبوين، يعطي
مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، واقرأ قول
الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ
تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] .
روى
الترمذي، وقال: حسن صحيح. أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه
الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم، فأبى أزواجهم، وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، رأوا الناس قد
فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوهم (أي يعاقبوا أولادهم)، فأنزل الله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] .
الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن تقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
هكذا بهذا التصريح، التقرير الواضح: إنما أموالكم وأولادكم فتنة.
أين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات؟
القضية
كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه، وأوراقه كانت مرتبة
تمامًا، الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونصرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم مقدمة على كل شيء، والصديق مع رقة قلبه، وعاطفته الجياشة، ومع تمام
رأفته مع أولاده، كان لا يقدم أحدًا منهم، مهما تغيرت الظروف على دعوته،
وجهاده، وما فتن بهم لحظة.
- أعلن الدعوة مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مكة، ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن
يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغارًا ضعافًا، محتاجين في وسط
الكفار المتربصين، كان يجاهد، ويعلم أنه إذا أراد الحماية للذرية الضعيفة
أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة، وكلمة الحق أيًا كانت
العوائق {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] .
-
لما هاجر الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح، لأنه
سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر، مخلفًا وراءه
ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشًا ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث،
وضرب أبو جهل لعنه الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، فسال الدم منها،
ما رأى الصديق كل ذلك، كل ما رآه هو نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريق
الله عز وجل، ليس هذا فقط ولكنه حمل معه كل أمواله، كل ما تبقى بعد
الإنفاق العظيم، خمسة آلاف درهم حملها جميعًا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، وماذا ترك لأهله؟
ترك لهم الله ورسوله، يقين عجيب، وثبات يقرب
من ثبات الأنبياء، أبو قحافة
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
يوم السقيفة
في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، اجتمع
الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة
بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة، رأى
الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى
هذا الاجتماع الطارئ.
هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تُسأل هذه
الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛
للطعن والكيد، والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام، يبرز من هذه الأسئلة
سؤالان هامان ركز المستشرقون، وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب،
أو الشرق، أو من أبناء المسلمين عليهما، سؤالان الغرض منهما الطعن في
الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية
الصحابة:
السؤال الأول:
كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله ؟
أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟
يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها،
فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألمَّ بهم، هذا السؤال
يتردد أيضًا في أذهان بعض المؤمنين للاستفسار، وللرد على شبهات الطاعنين.
السؤال الثاني:
لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟
الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين أود أن أقدم بتعريف للأنصار..
من هم الأنصار ؟
يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار، الأنصار
طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في
النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في
التاريخ بهذه الصورة، فعلاً، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت
ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورًا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة
رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على
الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار
قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله
أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله
أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئًا في دنياهم.
الأنصار، وما أدراك ما الأنصار، روى البخاري عن البراء قال: قال رسول الله : "الأَنْصَارُ
لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ،
فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ
اللَّهُ".
هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن
يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله
لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ".
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله قال للأنصار: "اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ", قالها ثلاثًا.
وروى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله للأنصار: "مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ".
وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك
قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني, وجرير بن عبد
الله هذا من أشراف قبيلة بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في
الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن
مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه،
قال أنس: لا تفعل. فقال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.
وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله ،
ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال
متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل
ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار: {وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله لهم، بل وصف الله الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور.
أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على
الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح، أيّ فضل! وأيّ
قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة! لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل
مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء
القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.
- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.
- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال : "لا".
أَبَى رسول الله عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله ،
ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًّا حقيقيًّا للمهاجرين، ووجدوا
في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب
الأنصار إلى رسول الله
يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا
لا يمتلكه إخوانهم، قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.
يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلاً من الأنصار، ثم يقسموا الناتج
من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من
يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل،
وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.
فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث
أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار
منذ آمنوا.
الأنصار بعد حنين:
حدث ما هو أشد من ذلك، وضربوا مثلاً أروع من هذه الأمثلة، وذلك في
أعقاب غزوة حنين في سنة 8 من الهجرة، أي قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول
الله وقصة بني ساعدة، روى ابن إسحاق مفصلاً، والبخاري مختصرًا عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله
ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار
منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة, أي أن
الغنائم كثرت جدًّا، فأعطى رسول الله منها للعديد من قبائل العرب، لكنه لم يعط الأنصار، فغضبوا لذلك, حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه.
والأمر خطير، غزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جدًّا في تاريخ
المسلمين، ومن المعروف أن المسلمين في بادئ المعركة فروا، وذلك عندما
اعتمدوا على أعدادهم وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله إلا أفراد معدودون، هنا صاح رسول الله : "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ".
فلبوا جميعًا، ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله نصره لرسول الله ، وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي، والإبل، والأغنام، والذهب، والفضة، والسلاح، وغير ذلك، وبدأ يوزع رسول الله الغنائم على القوم، ماذا فعل في الغنائم؟
لقد وجد رسول الله
أن أعدادًا كبيرة من زعماء قريش، وأهل مكة قد دخلوا الإسلام إما رهبة من
السيف، وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام، إن لم يعطهم
فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم، ولكن فيمن
وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة، ولم تتمكن في الجزيرة بعد،
فأراد الرسول
أن يتألفهم، ويحتويهم في هذا الدين، فأعطاهم عطاءً كريمًا سخيًّا، أعطى
وأعطى، ثم بعد ذلك لم يبق شيء في يده للأنصار، والأنصار هم الذين ثبتوا مع
رسول الله ،
وهم الذين قاتلوا ودافعوا، نعم، لم يفعلوا ذلك لأجل المال، ولا الغنائم،
لكن لا بد وأن يتساءل الإنسان، لماذا هذا التباين في العطاء؟
خاف الأنصار أن يكون رسول الله قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه، حتى يتألفهم، ومن ثَم يترك المدينة، وإذا ترك رسول الله المدينة فهذا أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمرًا يحزنهم لفراقه ، ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم؛ لنصرتهم لرسول الله ،
كما أنهم خشوا أن يكون ذلك استقلالاً بشأنهم، وتهميشًا لدورهم، ولا يستنكر
أيضًا أن يكون لهم رغبة في المال الحلال الذي حصد أمام أعينهم، وخـاصة
أنهم شاركوا في جمعه، والوصول إليه، فاستثناؤهم منه أمر قد يوغر الصدر، هنا
تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي في سرعة، وحكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله ، وذلك ليحتوي الموقف؛ كي لا تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد، دخل على رسول الله
ثم قال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في أنفسهم
لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في
قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
صراحة رائعة، ووضوح جميل من سعد بن عبادة ، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها. قال رسول الله : "فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟", قال في صراحة أكثر: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. يقصد أنه أيضًا يجد في نفسه، قال الرسول الحكيم محمد : "فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ".
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
ويبدو أن رسول الله لا يريد للفتنة أن تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك مجال للقيل، والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه.
فلما اجتمع الأنصار جاء له سعد بن عبادة فقال له: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله ، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "يَا
مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ
وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً،
فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءٌ
فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. رد الأنصار في أدب جم: الله ورسوله أَمَنّ، وأفضل.
رسول الله
يذكرهم بماضيهم منذ عشر سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال،
والفرقة، والفقر؟ ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا، واغتنوا بالإسلام؟
فكما رفعهم الله بالإسلام، ووجدوا حلاوته، فرسول الله يريد أن يرفع أقوامًا آخرين لحلاوة الإيمان، ثم قال : "أَلا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟", قال الأنصار في تواضع عجيب: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.
لم يذكر الأنصار أفضالهم على الدعوة، لم يذكروا أنهم وإن كانوا آمنوا،
واهتدوا، واغتنوا؛ فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وديارهم
وأرضهم، قدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله على سائر ما يحبون، أما هؤلاء القرشيون الذين امتلأت جيوبهم الآن، فلم يقدموا إلا كفرًا وجحودًا وحربًا لرسول الله
طيلة ثماني سنوات في المدينة، وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛
لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي حصلوها بنصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا،
ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول الرائع: لله ورسوله المن والفضل.
لكن رسول الله رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم، وفضلهم ويقوّم الأشياء، فيحسن التقويم ، قال: "أَمَا
وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ:
أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ،
وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ".
لم يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم، وفضلهم، وإيثارهم، وتقديرهم لرسول الله . ثم بدأ رسول الله يخاطب قلوب الأنصار في مقالة رقيقة حانية، قال: "أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (لعاعة نبات صغير رقيق أي أن كل ما أعطيه لهم لا يساوي شيئًا) تَأَلَّفْتُ
بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ؟ أَلا
تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ،
وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ
إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ
لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا،
وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ
ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ
الأَنْصَارِ".
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قِسْمًا وحظًّا. ثم انصرف رسول الله ، وتفرقوا.
بهذه الكلمات القليلات، وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية، انتهت
الفتنة في دقائق معدودة، ها هم الأنصار ينصرفون باكين، بهذه الكلمات نفوسهم
راضية، وأفئدتهم مطمئنة، وفي لحظات وجدوا أن مائة بعير، أو مائتين من
البعير، أو ثلاثمائة من البعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئًا،
هكذا في منتهى البساطة تركوا دنيا واسعة عريضة؛ استجابة لكلمات معدودات
طاهرات من فم رسول الله ..
أين حظ نفوسهم؟
أين الدنيا في قلوبهم؟
أين الأثرة أو حب الذات؟
لا شيء
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
هؤلاء هم الأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ لاختيار خليفة لرسول الله ، ولا بد أن ندرس قصة سقيفة بن ساعدة في ضوء هذه الخلفية وهذه الحقائق.
الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة
بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة، رأى
الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى
هذا الاجتماع الطارئ.
هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تُسأل هذه
الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛
للطعن والكيد، والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام، يبرز من هذه الأسئلة
سؤالان هامان ركز المستشرقون، وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب،
أو الشرق، أو من أبناء المسلمين عليهما، سؤالان الغرض منهما الطعن في
الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية
الصحابة:
السؤال الأول:
كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله ؟
أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟
يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها،
فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألمَّ بهم، هذا السؤال
يتردد أيضًا في أذهان بعض المؤمنين للاستفسار، وللرد على شبهات الطاعنين.
السؤال الثاني:
لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟
الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين أود أن أقدم بتعريف للأنصار..
من هم الأنصار ؟
يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار، الأنصار
طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في
النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في
التاريخ بهذه الصورة، فعلاً، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت
ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورًا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة
رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على
الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار
قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله
أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله
أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئًا في دنياهم.
الأنصار، وما أدراك ما الأنصار، روى البخاري عن البراء قال: قال رسول الله : "الأَنْصَارُ
لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ،
فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ
اللَّهُ".
هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن
يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله
لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ".
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله قال للأنصار: "اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ", قالها ثلاثًا.
وروى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله للأنصار: "مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ".
وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك
قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني, وجرير بن عبد
الله هذا من أشراف قبيلة بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في
الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن
مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه،
قال أنس: لا تفعل. فقال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.
وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله ،
ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال
متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل
ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار: {وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله لهم، بل وصف الله الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور.
أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على
الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح، أيّ فضل! وأيّ
قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة! لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل
مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء
القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.
- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.
- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال : "لا".
أَبَى رسول الله عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله ،
ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًّا حقيقيًّا للمهاجرين، ووجدوا
في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب
الأنصار إلى رسول الله
يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا
لا يمتلكه إخوانهم، قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.
يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلاً من الأنصار، ثم يقسموا الناتج
من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من
يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل،
وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.
فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث
أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار
منذ آمنوا.
الأنصار بعد حنين:
حدث ما هو أشد من ذلك، وضربوا مثلاً أروع من هذه الأمثلة، وذلك في
أعقاب غزوة حنين في سنة 8 من الهجرة، أي قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول
الله وقصة بني ساعدة، روى ابن إسحاق مفصلاً، والبخاري مختصرًا عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله
ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار
منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة, أي أن
الغنائم كثرت جدًّا، فأعطى رسول الله منها للعديد من قبائل العرب، لكنه لم يعط الأنصار، فغضبوا لذلك, حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه.
والأمر خطير، غزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جدًّا في تاريخ
المسلمين، ومن المعروف أن المسلمين في بادئ المعركة فروا، وذلك عندما
اعتمدوا على أعدادهم وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله إلا أفراد معدودون، هنا صاح رسول الله : "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ".
فلبوا جميعًا، ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله نصره لرسول الله ، وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي، والإبل، والأغنام، والذهب، والفضة، والسلاح، وغير ذلك، وبدأ يوزع رسول الله الغنائم على القوم، ماذا فعل في الغنائم؟
لقد وجد رسول الله
أن أعدادًا كبيرة من زعماء قريش، وأهل مكة قد دخلوا الإسلام إما رهبة من
السيف، وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام، إن لم يعطهم
فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم، ولكن فيمن
وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة، ولم تتمكن في الجزيرة بعد،
فأراد الرسول
أن يتألفهم، ويحتويهم في هذا الدين، فأعطاهم عطاءً كريمًا سخيًّا، أعطى
وأعطى، ثم بعد ذلك لم يبق شيء في يده للأنصار، والأنصار هم الذين ثبتوا مع
رسول الله ،
وهم الذين قاتلوا ودافعوا، نعم، لم يفعلوا ذلك لأجل المال، ولا الغنائم،
لكن لا بد وأن يتساءل الإنسان، لماذا هذا التباين في العطاء؟
خاف الأنصار أن يكون رسول الله قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه، حتى يتألفهم، ومن ثَم يترك المدينة، وإذا ترك رسول الله المدينة فهذا أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمرًا يحزنهم لفراقه ، ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم؛ لنصرتهم لرسول الله ،
كما أنهم خشوا أن يكون ذلك استقلالاً بشأنهم، وتهميشًا لدورهم، ولا يستنكر
أيضًا أن يكون لهم رغبة في المال الحلال الذي حصد أمام أعينهم، وخـاصة
أنهم شاركوا في جمعه، والوصول إليه، فاستثناؤهم منه أمر قد يوغر الصدر، هنا
تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي في سرعة، وحكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله ، وذلك ليحتوي الموقف؛ كي لا تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد، دخل على رسول الله
ثم قال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في أنفسهم
لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في
قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
صراحة رائعة، ووضوح جميل من سعد بن عبادة ، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها. قال رسول الله : "فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟", قال في صراحة أكثر: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. يقصد أنه أيضًا يجد في نفسه، قال الرسول الحكيم محمد : "فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ".
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
ويبدو أن رسول الله لا يريد للفتنة أن تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك مجال للقيل، والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه.
فلما اجتمع الأنصار جاء له سعد بن عبادة فقال له: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله ، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "يَا
مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ
وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً،
فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءٌ
فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. رد الأنصار في أدب جم: الله ورسوله أَمَنّ، وأفضل.
رسول الله
يذكرهم بماضيهم منذ عشر سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال،
والفرقة، والفقر؟ ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا، واغتنوا بالإسلام؟
فكما رفعهم الله بالإسلام، ووجدوا حلاوته، فرسول الله يريد أن يرفع أقوامًا آخرين لحلاوة الإيمان، ثم قال : "أَلا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟", قال الأنصار في تواضع عجيب: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.
لم يذكر الأنصار أفضالهم على الدعوة، لم يذكروا أنهم وإن كانوا آمنوا،
واهتدوا، واغتنوا؛ فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وديارهم
وأرضهم، قدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله على سائر ما يحبون، أما هؤلاء القرشيون الذين امتلأت جيوبهم الآن، فلم يقدموا إلا كفرًا وجحودًا وحربًا لرسول الله
طيلة ثماني سنوات في المدينة، وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛
لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي حصلوها بنصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا،
ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول الرائع: لله ورسوله المن والفضل.
لكن رسول الله رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم، وفضلهم ويقوّم الأشياء، فيحسن التقويم ، قال: "أَمَا
وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ:
أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ،
وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ".
لم يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم، وفضلهم، وإيثارهم، وتقديرهم لرسول الله . ثم بدأ رسول الله يخاطب قلوب الأنصار في مقالة رقيقة حانية، قال: "أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (لعاعة نبات صغير رقيق أي أن كل ما أعطيه لهم لا يساوي شيئًا) تَأَلَّفْتُ
بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ؟ أَلا
تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ،
وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ
إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ
لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا،
وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ
ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ
الأَنْصَارِ".
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قِسْمًا وحظًّا. ثم انصرف رسول الله ، وتفرقوا.
بهذه الكلمات القليلات، وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية، انتهت
الفتنة في دقائق معدودة، ها هم الأنصار ينصرفون باكين، بهذه الكلمات نفوسهم
راضية، وأفئدتهم مطمئنة، وفي لحظات وجدوا أن مائة بعير، أو مائتين من
البعير، أو ثلاثمائة من البعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئًا،
هكذا في منتهى البساطة تركوا دنيا واسعة عريضة؛ استجابة لكلمات معدودات
طاهرات من فم رسول الله ..
أين حظ نفوسهم؟
أين الدنيا في قلوبهم؟
أين الأثرة أو حب الذات؟
لا شيء
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
هؤلاء هم الأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ لاختيار خليفة لرسول الله ، ولا بد أن ندرس قصة سقيفة بن ساعدة في ضوء هذه الخلفية وهذه الحقائق.
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
نعود إلى السؤالين الذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار خليفة من بينهم:
السؤال الأول:
كيف أسرعوا إلى ذلك، ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله ؟
يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزنًا كافيًا؛ ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.
وللرد على هذه الشبهة نقول:
أولاً: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها، ويتجاهلونها عن قصد وعمد، رسول الله
نَزَّههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم، بقرآن باق إلى يوم
القيامة، فإذا تغير منهم رجل، أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعًا،
ويجتمعوا على حب الدنيا.
ثانيًا: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5].
الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى..
روى البخاري ومسلم عن أنس قال: مر النبي بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي". فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي . فأتت باب النبي ، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى".
لقد كان صبر الأنصار صبرًا جميلاً، صبرًا عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر: 10].
هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم وأرضاهم.
ثالثًا: هل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله ؟
هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟
أبدًا، المسلم الإيجابي مهما حزن، فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب،
الحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن مرضي غير مرغوب فيه، وإذا فكرنا في
الموقف قليلاً، ترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين، أو أسبوعًا أو
أسبوعين، حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون
النتيجة؟
ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟
من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟
من يجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟
ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟
وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة، وإسلامهم حديث، وردتهم
متوقعة، وماذا يحدث لو هجم مسليمة الكذاب بجحافله المرتدة على المدينة؟ من
يأخذ قرار الحرب ضدهم؟
ماذا لو نقض اليهود عهدهم؟
أيحاربون أم يوادعون؟
أتكون لهم شروط جديدة ويكون لهم عهد جديد؟
ثم ماذا يحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلاً منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟
ماذا يكون رد فعل الصحابة؟
أينكرون بيعته ويحاربون وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى؟
أم يتركون منافقًا يترأسهم؟
ماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة، التي تكون دولة الإسلام الآن زعيمًا لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزابًا وشيعًا؟
من يجمع ومن يوحد؟
بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي، نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة لوفاة الرسول ، هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.
الأنصار يختارون الخليفة منهم:
لكن السؤال الأصعب، والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلاً عن غير
المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم، وليس من
المهاجرين؟
أولاً: حتى نفهم موقف الأنصار، لا بد أن نسمي الأشياء بمصطلحات العصر
الحديثة، حتى ندرك أبعاد الموقف بأكمله، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم
أهل البلد الأصليون، كانت المدينة، وكأنها دولة مستقلة، يعيش فيها الأوس
والخزرج، وذلك قبل قدوم الرسول ،
والمهاجرين إليها، ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة، دولة مستقلة أخرى
بجوار المدينة المنورة، وضُيق على المهاجرين الخناق، فاضطروا إلى ترك
البلد، واللجوء إلى المدينة المنورة، أي أن التعريف الحديث للمهاجرين هو
مجموعة من اللاجئين السياسيين في المدينة المنورة، وكدولة كريمة سخية عادلة
استقبلت المدينة اللاجئين، أو المهاجرين خير استقبال، وأكرمتهم، وأعطت
لهم، ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض أبدًا
عليهم قيودًا تعوق من حياتهم، بل على العكس كثيرًا ما آثرتهم على أهل
البلد الأصليين، ثم مرت أيام أخرى، ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها
النبي محمد ، وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين، أم من اللاجئين إليها؟
أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قَدّموا لأجل من قَدِم
إليهم أم يُقَدّم الذي جاء طريدًا من بلده فاستقبل في بلد آخر؟
لو هاجر مجموعة من الفلسطينيين مثلاً إلى أمريكا، أو إنجلترا، أو حتى
إلى بلد إسلامي مجاور، أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن
يُختار الرئيس الجديد من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟
هذا في عرف كل من فكر في القضية تفكيرًا عقلانيًّا بحتًا لا يصح، ما لم
يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك، وليس هناك -فيما أعلم- بلد في العالم وضع
مثل هذا القانون الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.
هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة الرسول ، هم أصحاب البلد، وأكثريتها، وملاكها، أرض آبائهم وأجدادهم، فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟
إذن هذه نقطة.
ثانيًا: أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها، واضح أن
المدينة هي دار الإسلام الرئيسية، ومكة، والطائف، وغيرها ما هي إلا مدن
تابعة، أليس من المنطقي الذي يخطر على بال الأنصار أنه من المصلحة أن يقود
هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها، وبتاريخها،
وجذورها، أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟
هذا ولا شك خطر على بال الأنصار؛ فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.
ثالثًا: أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دولة بغير الأنصار؟
المهاجرون قضوا ثلاث عشرة سنة كاملة في مكة، ولم يفلحوا هناك في تحويلها
لبلد إسلامي، فكان لا بد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية للعودة
مرة أخرى إلى مكة، سعى رسول الله إلى بلاد شتى لكي يئوه، وينصروه، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، ذهب الرسول الكريم
إلى الطائف، فأبوا عليه وطردوه، ورجموه بالحجارة، خاطب معظم قبائل العرب
في مواسم الحج، فردوه جميعًا، خاطب بني حنيفة، وبني كندة، وبني شيبان، وبني
عامر بن لؤي، وبني كلب، وغيرهم، وغيرهم..
فردوه جميعًا إلا طائفة صغيرة من الخزرج، ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا
بغيرهم، ثم بعدها دخلوا في الدين أفواجًا، وعرضوا استقبال رسول الله ، والمهاجرين في بلادهم، وبايعوا رسول الله على بذل النفس، والمال، والجهد، والوقت، والرأي، وكل شيء، وهاجر فعلاً رسول الله ،
والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة، فقامت دولة الإسلام، ولا
شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت، إلا عندما يظهر
فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار ، لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.
رابعًا: (نقطة هامة جدًّا) الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة بعد وفاة رسول ،
مكة البلد الحرام، مكة التي تركوا فيها ديارهم، وأرضهم، وأموالهم التي
صادرها المشركون، الآن أسلم المشركون، ومن حقهم العودة إلى بلادهم؛ لأخذ ما
صودر منهم هناك، ومن حقهم أن يعيشوا في البلد الحرام حيث الصلاة بمائة ألف
صلاة، ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى، والعائلات الأصلية في مكة وما
حولها، والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل، في غزوة حنين كما ذكرنا منذ
قليل فإنهم قالوا: لقي رسول الله والله قومه.
فكانوا يعتقدون أن رسول الله سينتقل إلى مكة بعد فتحها، وإن كان رسول الله لم يفعل، فما الذي يمنع المهاجرون أن يرجعوا إلى بلدهم وقد آمنت؟
فإذا كان رجوع المهاجرين وشيكًا، أليس من المنطقي لاستقرار الدولة
الإسلامية أن يكون قائدها من أهل العاصمة بعد أن تخلو من مهاجريها، فإن قيل
إنه في هذه الحالة قد تنتقل العاصمة إلى مكة، فإنه يرد على ذلك بأنه ليس
من الحكمة أن تنقل العاصمة إلى هذا البلد المتقلب، أهل مكة دخلوا الإسلام
منذ أقل من 3 أعوام فقط رغمًا عن أنوفهم، صرح بذلك من صرح وأخفى ذلك من
أخفى، وهم حديثو عهد بجاهلية وشرك، وليس لهم فقه وعلم أهل المدينة، وردتهم
عن الدين الجديد واردة، بل فعلاً بعد وفاة رسول الله كانوا على شفا حفرة لولا أن ثبتهم على الإسلام بسهيل بن عمرو وأرضاه، إذن ليس من الحكمة السياسية أن تنتقل الزعامة إلى مكة، فإذا كانت ستبقى في المدينة، والمدينة سيتركها المهاجرون فمن سيحكم؟
سؤال لا بد أن الأنصار فكروا فيه، والإجابة بسيطة وسهلة: لا بد أن يكون من الأنصار.
خامسًا: الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة الرسول ، فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار؛ لأنهم هم الذين نصروا محمدًا ،
وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة، وليس لهم الشرف
الذي كان في قريش، وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك، فإن لم يكن لهم قوة
الحكم والسلطان فقد يُسْتأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب، وسيظهر هذا
الإحساس في كلامهم كما سنرى في سقيفة بني ساعدة.
لهذه الأسباب مجتمعة، ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه، اعتقد الأنصار
أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين، ليس تقليلاً
لشأن المهاجرين في نظرهم، ولا إهمالاً لهم، ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا
ينازعهم فيه أحد.
ومع كل ما سبق، فلعله كان من الألطف أن يخبروا إخوانهم المهاجرين بما
يعتزمون فعله، وإطلاعهم على مسببات اختيار الخليفة من بينهم، وذلك حسمًا
لأي شك أو حزن يدخل في قلوب المهاجرين، وإن كان الأنصار أيضًا يعذرون
بأمور:
أولاً: لعلهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلاً في الخلافة؛ لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل.
ثانيًا: لعلهم أرادوا غلق باب الفتنة، ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر.
ثالثًا: لعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله ، ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.
المهم أن الأنصار ذهبوا بالفعل أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة لتجري
عملية انتخاب الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبليتين
الكبيرتين.
أين المهاجرون من هذه الأحداث ؟
فعلاً كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح، في بيت رسول الله وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن..
أين يدفن ؟
أفي البقيع؟
أم مع شهداء أحد؟
أم في مكة بلده؟
أم في مكان خاص به؟
حتى جاء أبو بكر الصديق ، وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله من قبل.
لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟
لا بالطبع، رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة، فأسرع إلى بيت رسول الله ، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم أجمعين، نادى الرجل على عمر بن الخطاب وقال: اخرج إليَّ يا ابن الخطاب. قال عمر :
إليك عني فإنا عنك مشاغيل. لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل:
إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة،
فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًا.
هنا أدرك عمر بن الخطاب
خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له: انطلق
بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.
وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلاً، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف
جدًّا، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون، فإما أن يبايعوا على
ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة، وفي هذا فساد، فلا بد أن يسرعوا قبل
أن يكتمل الأمر، ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة، أسرع الصديق وعمر رضي
الله عنهما إلى السقيفة..
وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله عوين بن ساعدة ، ومعن بن عدي ،
فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة،
وليقضوا أمرهم -أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة
بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله
عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة
بن الجراح ، وهو رجل من أعاظم المهاجرين
أجمعين، فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، ومن الواضح أن المهاجرين لا
يضمرون في أنفسهم شرًّا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة، كما اتهمهم كثير من
المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل
هذا الحدث الهام؟
وفي هذه الأثناء، وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة، كان الأنصار قد خطوا
خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على
اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة زعيمًا للمسلمين، وخليفة لرسول الله ،
سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه ولا شك فضيلة
إيمانية عالية، فلو نذكر منذ سنوات معدودات، وقبل قدوم الرسول
إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث،
والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة بين الطرفين، أما الآن فقد تغيرت نفوس الأنصار،
وتركت حظ نفسها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس
حرجًا في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، ووقفوا جميعًا وراءه ولم يطرحوا
اسمًا أوسيًّا بديلاً، بل قبلوا به دونما أدنى جدل، إذن الرجل المرشح الأول
للخلافة هو: سعد بن عبادة، في نظر الأنصار، وسعد بن عبادة أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار، فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختيارًا موفقًا لا ريب.
من هو سعد بن عبادة المرشح الأول للخلافة من قِبَل الأنصار؟
للأسف إننا لا نعرف سعد بن عبادة، أو نعرفه بصورة مشوهة، هو سيد الخزرج،
وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، وكان شريفًا في قومه، وكان يجير للمطعم
بن عدي قوافله المارة بالمدينة قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف ، وكان ممن شهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وله مواقف مشهورة في الغزوات، ولا سيما في الخندق، حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله على رأيه في ذلك، كان رسول الله يُجله، ويقدره، ويكثر من زيارته، وذلك لمكانته بين الأنصار ..
يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أن رسول الله زارهم في بيتهم فقال: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". قال قيس: فرد أبي ردًّا خفيًّا، فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله؟ فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام. فقال : "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". وهنا ظن الرسول
أنه لا أحد بالبيت، فرجع، فتبعه سعد فقال: يا رسول الله، إني كنت أسمع
تسليمك، وأرد عليك ردًّا خفيًّا؛ لتكثر علينا من السلام, فانصرف النبي معه إلى بيته، وأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه ، وهو يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدٍ".
كان سعد
جوادًا واسع الكرم والسخاء، كان الرجل من الأنصار ينطلق بالرجل من فقراء
الصُّفة يطعمه، وينطلق الرجل من الأنصار بالرجلين، وينطلق الرجل من الأنصار
بالخمسة رجال، أما سعد بن عبادة، فكان ينطلق بالثمانين منهم وأرضاه.
وروى مسلم عن أبي أسيد الأنصاري أنه يشهد أن رسول الله قال: "خَيْرُ
دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبِدْ الأَشْهَلِ،
ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي
كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ".
ويبدو أن أحد الحضور قد شكك في كلام أبي أسيد وهو من بني ساعدة فقال: أَتَّهِمُ أَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ؟
لَوْ كُنْتُ كَاذِبًا لَبَدَأْتُ بِقَوْمِي بَنِي سَاعِدَةَ. وبلغ ذلك سعد
بن عبادة فوجد في نفسه حزن، وقال: خُلِّفْنَا فكنا آخر الأربع -سعد بن
عبادة من بني ساعدة- أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله ، فكلمه ابن أخيه سهل فقال له: أتذهب لترد على رسول الله ، ورسول الله أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع؟ فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحل عنه.
هكذا ببساطة رضي أن يكون رابع القبائل في الخيرية، وممن سبقه بنو عبد
الأشهل، وهم من الأوس، هذا مع كون سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكنه كان
وقافًا على كتاب الله، وعلى كلام رسوله ، فاكتفى بقوله: الله ورسوله أعلم.
نعود إلى سقيفة بني ساعدة، إذن اختار الأنصار سعد بن عبادة ، وكان مريضًا ،
ويجلس وهو مزمل بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره،
فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا، فكان يبلغ ابنه بالكلام، ويتحدث ابنه إلى
الناس، فقال سعد بن عبادة بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: يا معشر الأنصار.
ونلاحظ أنه لم يدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بعد، فليس هناك أحد من المهاجرين.
يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.
ونلاحظ هنا أنه يرفع شأن الأنصار فوق كل قبائل العرب بما فيها قبائل مكة وفيها قريش، لماذا؟ هو يفسر في خطبته فيقول: إن محمدًا
لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن
به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة.
وهنا ما نسي أن ينسب سعد بن عبادة الفضل لله .
يقول: وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له،
ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه
منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.
وطبعًا كلام سعد بن عبادة هنا كلام حقيقي وصحيح، فالمهاجرون في بدر مثلاً كانوا 82 أو83 بينما كان الأنصار231 رجلاً.
ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول: حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا
وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا. أي أن العرب جميعًا سلمت
القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.
يقول: حتى أغنى الله لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب.
وهنا سعد بن عبادة ، وكأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة الرسول ، لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الاتباع.
ثم يختم سعد بن عبادة خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفَّى الله رسوله ، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.
مع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معان عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالاً أن سعد بن عبادة ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم، وحب الرسول لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب.
ذكر كل ذلك لهدفين رئيسيين فيما يبدو لي:
الهدف الأول: هو رفع الحالة المعنوية للأنصار بعد المصاب الفادح بوفاة رسول الله ، ونفي الإحباط واليأس، والدعوة لاستمرار المسيرة كما بدأها، والثبات على أمر هذا الدين.
الهدف الثاني: هو التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة، فيما يبدو لهم
من حيث إنهم الذين نصروا، وآووا، وقاتلوا العرب، ومكنوا للدين.
وإجمالاً فالخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.
بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر ،
ومعه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار،
ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، فهذا قد يعطل البيعة،
نعم، الأنصار استقروا على سعد بن عبادة ، لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، لقد دخل الصديق أبو بكر الوزير الأول لرسول الله ، وثاني اثنين، والصاحب القريب إلى رسول الله ، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله ، والملهم المحدث، الفاروق، ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله ؛ لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة..
وهذا مما دعا السيدة عائشة أن تقول كما جاء في صحيح مسلم عندما سئلت: من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
ولقد مات أبو عبيدة في خلافة عمر سنة 18 هجرية، ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة، لو كان حيًّا.
إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من
الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين، إذن هنا ستحدث مواجهة،
الأنصار يريدون سعد بن عبادة ، والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، ولكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب، ترى ماذا سيقول المهاجرون؟
أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟
ما حدث في سقيفة بني ساعدة:
لنرَ كيف صور عمر بن الخطاب
الموقف، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم
في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد
بن عبادة.
وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس، فلفت نظر عمر بن الخطاب ، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.
يقول عمر: قلت: ما له؟ قالوا: يوعك -أي مريض- فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم.
حدثت لحظة من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة
قد يغير من الأمور، ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي
المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، لم يُشر
إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في (فتح
الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس ،
فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر، المهم أنه
أراد أن يتكلم كلامًا فصلاً، فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن
الخطاب : تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية أخرى: رهط منا.
هنا بوادر مشكلة، الخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام
وأنصار الله، بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية أخرى: رهط منا.
أي عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه التقط أن المهاجرين سيريدون الخلافة فيهم،
فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار، والأنصاري
بالطبع يقصد المهاجرين قبل فتح مكة، والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا
فلو اعتبروا أعداد القرشيين في مكة، والذين أسلموا بعد الفتح، فسيكونون
أضعاف وأضعاف الأنصار، وبذلك فإن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح أن
الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر، والذي نصر الإسلام في كل المشاهد،
والمواقع بنسبة دائمًا ما تكون أكبر من المهاجرين، هذا كان من باب التلميح،
ثم إنه بعد ذلك صرح، قال الخطيب الأنصاري: وقد دفت دافة من قومكم -أي جاءت
مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا -أي
يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر -أي يخرجونا منه- ثم
سكت.
لقد صرح الأنصاري الآن بشيء لا بد أن يحدث بعده جدال طويل، فقد قال
صراحة إنكم أيها المهاجرون، ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد جئتم
لتخرجونا من أمر هو يرى أنه حق الأنصار، فكيف يكون هذا؟
ها قد جاء موقف يقول فيه المسلمون: نحن الأنصار، و: نحن المهاجرون.
وهذا أمر خطير، ورسول الله
نهى عن ذلك تمامًا ونهى عن دعوى الجاهلية، والقبلية، ونهى عن فساد ذات
البين، ولا بد من الحكمة الشديدة، والحرص البالغ في معالجة الموقف، وهو ما
زال في بدايته، ويجب أن نلاحظ أن كل هذا الموقف يحدث نفس اليوم الذي توفي
فيه رسول الله ، ولم يدفن بعد.
يقول عمر بن الخطاب :
فلما سكت -أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني
-أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال
أبو بكر: على رسلك.
أي على مهلك، يعني أسكته، يريد أن يتكلم هو ، ولعله خشي أن يقول عمر بن الخطاب كلامًا شديدًا يعقد الموقف.
يقول عمر : فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر, وعمر وكذا كل الصحابة، كانوا يجلون أبا بكر إجلالاً كبيرًا، وكان إذا تكلم أنصتوا، يقول عمر: فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.
السؤال الأول:
كيف أسرعوا إلى ذلك، ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله ؟
يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزنًا كافيًا؛ ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.
وللرد على هذه الشبهة نقول:
أولاً: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها، ويتجاهلونها عن قصد وعمد، رسول الله
نَزَّههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم، بقرآن باق إلى يوم
القيامة، فإذا تغير منهم رجل، أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعًا،
ويجتمعوا على حب الدنيا.
ثانيًا: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5].
الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى..
روى البخاري ومسلم عن أنس قال: مر النبي بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي". فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي . فأتت باب النبي ، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى".
لقد كان صبر الأنصار صبرًا جميلاً، صبرًا عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر: 10].
هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم وأرضاهم.
ثالثًا: هل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله ؟
هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟
أبدًا، المسلم الإيجابي مهما حزن، فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب،
الحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن مرضي غير مرغوب فيه، وإذا فكرنا في
الموقف قليلاً، ترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين، أو أسبوعًا أو
أسبوعين، حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون
النتيجة؟
ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟
من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟
من يجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟
ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟
وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة، وإسلامهم حديث، وردتهم
متوقعة، وماذا يحدث لو هجم مسليمة الكذاب بجحافله المرتدة على المدينة؟ من
يأخذ قرار الحرب ضدهم؟
ماذا لو نقض اليهود عهدهم؟
أيحاربون أم يوادعون؟
أتكون لهم شروط جديدة ويكون لهم عهد جديد؟
ثم ماذا يحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلاً منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟
ماذا يكون رد فعل الصحابة؟
أينكرون بيعته ويحاربون وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى؟
أم يتركون منافقًا يترأسهم؟
ماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة، التي تكون دولة الإسلام الآن زعيمًا لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزابًا وشيعًا؟
من يجمع ومن يوحد؟
بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي، نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة لوفاة الرسول ، هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.
الأنصار يختارون الخليفة منهم:
لكن السؤال الأصعب، والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلاً عن غير
المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم، وليس من
المهاجرين؟
أولاً: حتى نفهم موقف الأنصار، لا بد أن نسمي الأشياء بمصطلحات العصر
الحديثة، حتى ندرك أبعاد الموقف بأكمله، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم
أهل البلد الأصليون، كانت المدينة، وكأنها دولة مستقلة، يعيش فيها الأوس
والخزرج، وذلك قبل قدوم الرسول ،
والمهاجرين إليها، ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة، دولة مستقلة أخرى
بجوار المدينة المنورة، وضُيق على المهاجرين الخناق، فاضطروا إلى ترك
البلد، واللجوء إلى المدينة المنورة، أي أن التعريف الحديث للمهاجرين هو
مجموعة من اللاجئين السياسيين في المدينة المنورة، وكدولة كريمة سخية عادلة
استقبلت المدينة اللاجئين، أو المهاجرين خير استقبال، وأكرمتهم، وأعطت
لهم، ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض أبدًا
عليهم قيودًا تعوق من حياتهم، بل على العكس كثيرًا ما آثرتهم على أهل
البلد الأصليين، ثم مرت أيام أخرى، ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها
النبي محمد ، وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين، أم من اللاجئين إليها؟
أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قَدّموا لأجل من قَدِم
إليهم أم يُقَدّم الذي جاء طريدًا من بلده فاستقبل في بلد آخر؟
لو هاجر مجموعة من الفلسطينيين مثلاً إلى أمريكا، أو إنجلترا، أو حتى
إلى بلد إسلامي مجاور، أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن
يُختار الرئيس الجديد من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟
هذا في عرف كل من فكر في القضية تفكيرًا عقلانيًّا بحتًا لا يصح، ما لم
يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك، وليس هناك -فيما أعلم- بلد في العالم وضع
مثل هذا القانون الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.
هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة الرسول ، هم أصحاب البلد، وأكثريتها، وملاكها، أرض آبائهم وأجدادهم، فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟
إذن هذه نقطة.
ثانيًا: أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها، واضح أن
المدينة هي دار الإسلام الرئيسية، ومكة، والطائف، وغيرها ما هي إلا مدن
تابعة، أليس من المنطقي الذي يخطر على بال الأنصار أنه من المصلحة أن يقود
هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها، وبتاريخها،
وجذورها، أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟
هذا ولا شك خطر على بال الأنصار؛ فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.
ثالثًا: أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دولة بغير الأنصار؟
المهاجرون قضوا ثلاث عشرة سنة كاملة في مكة، ولم يفلحوا هناك في تحويلها
لبلد إسلامي، فكان لا بد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية للعودة
مرة أخرى إلى مكة، سعى رسول الله إلى بلاد شتى لكي يئوه، وينصروه، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، ذهب الرسول الكريم
إلى الطائف، فأبوا عليه وطردوه، ورجموه بالحجارة، خاطب معظم قبائل العرب
في مواسم الحج، فردوه جميعًا، خاطب بني حنيفة، وبني كندة، وبني شيبان، وبني
عامر بن لؤي، وبني كلب، وغيرهم، وغيرهم..
فردوه جميعًا إلا طائفة صغيرة من الخزرج، ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا
بغيرهم، ثم بعدها دخلوا في الدين أفواجًا، وعرضوا استقبال رسول الله ، والمهاجرين في بلادهم، وبايعوا رسول الله على بذل النفس، والمال، والجهد، والوقت، والرأي، وكل شيء، وهاجر فعلاً رسول الله ،
والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة، فقامت دولة الإسلام، ولا
شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت، إلا عندما يظهر
فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار ، لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.
رابعًا: (نقطة هامة جدًّا) الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة بعد وفاة رسول ،
مكة البلد الحرام، مكة التي تركوا فيها ديارهم، وأرضهم، وأموالهم التي
صادرها المشركون، الآن أسلم المشركون، ومن حقهم العودة إلى بلادهم؛ لأخذ ما
صودر منهم هناك، ومن حقهم أن يعيشوا في البلد الحرام حيث الصلاة بمائة ألف
صلاة، ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى، والعائلات الأصلية في مكة وما
حولها، والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل، في غزوة حنين كما ذكرنا منذ
قليل فإنهم قالوا: لقي رسول الله والله قومه.
فكانوا يعتقدون أن رسول الله سينتقل إلى مكة بعد فتحها، وإن كان رسول الله لم يفعل، فما الذي يمنع المهاجرون أن يرجعوا إلى بلدهم وقد آمنت؟
فإذا كان رجوع المهاجرين وشيكًا، أليس من المنطقي لاستقرار الدولة
الإسلامية أن يكون قائدها من أهل العاصمة بعد أن تخلو من مهاجريها، فإن قيل
إنه في هذه الحالة قد تنتقل العاصمة إلى مكة، فإنه يرد على ذلك بأنه ليس
من الحكمة أن تنقل العاصمة إلى هذا البلد المتقلب، أهل مكة دخلوا الإسلام
منذ أقل من 3 أعوام فقط رغمًا عن أنوفهم، صرح بذلك من صرح وأخفى ذلك من
أخفى، وهم حديثو عهد بجاهلية وشرك، وليس لهم فقه وعلم أهل المدينة، وردتهم
عن الدين الجديد واردة، بل فعلاً بعد وفاة رسول الله كانوا على شفا حفرة لولا أن ثبتهم على الإسلام بسهيل بن عمرو وأرضاه، إذن ليس من الحكمة السياسية أن تنتقل الزعامة إلى مكة، فإذا كانت ستبقى في المدينة، والمدينة سيتركها المهاجرون فمن سيحكم؟
سؤال لا بد أن الأنصار فكروا فيه، والإجابة بسيطة وسهلة: لا بد أن يكون من الأنصار.
خامسًا: الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة الرسول ، فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار؛ لأنهم هم الذين نصروا محمدًا ،
وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة، وليس لهم الشرف
الذي كان في قريش، وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك، فإن لم يكن لهم قوة
الحكم والسلطان فقد يُسْتأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب، وسيظهر هذا
الإحساس في كلامهم كما سنرى في سقيفة بني ساعدة.
لهذه الأسباب مجتمعة، ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه، اعتقد الأنصار
أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين، ليس تقليلاً
لشأن المهاجرين في نظرهم، ولا إهمالاً لهم، ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا
ينازعهم فيه أحد.
ومع كل ما سبق، فلعله كان من الألطف أن يخبروا إخوانهم المهاجرين بما
يعتزمون فعله، وإطلاعهم على مسببات اختيار الخليفة من بينهم، وذلك حسمًا
لأي شك أو حزن يدخل في قلوب المهاجرين، وإن كان الأنصار أيضًا يعذرون
بأمور:
أولاً: لعلهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلاً في الخلافة؛ لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل.
ثانيًا: لعلهم أرادوا غلق باب الفتنة، ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر.
ثالثًا: لعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله ، ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.
المهم أن الأنصار ذهبوا بالفعل أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة لتجري
عملية انتخاب الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبليتين
الكبيرتين.
أين المهاجرون من هذه الأحداث ؟
فعلاً كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح، في بيت رسول الله وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن..
أين يدفن ؟
أفي البقيع؟
أم مع شهداء أحد؟
أم في مكة بلده؟
أم في مكان خاص به؟
حتى جاء أبو بكر الصديق ، وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله من قبل.
لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟
لا بالطبع، رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة، فأسرع إلى بيت رسول الله ، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم أجمعين، نادى الرجل على عمر بن الخطاب وقال: اخرج إليَّ يا ابن الخطاب. قال عمر :
إليك عني فإنا عنك مشاغيل. لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل:
إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة،
فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًا.
هنا أدرك عمر بن الخطاب
خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له: انطلق
بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.
وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلاً، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف
جدًّا، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون، فإما أن يبايعوا على
ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة، وفي هذا فساد، فلا بد أن يسرعوا قبل
أن يكتمل الأمر، ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة، أسرع الصديق وعمر رضي
الله عنهما إلى السقيفة..
وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله عوين بن ساعدة ، ومعن بن عدي ،
فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة،
وليقضوا أمرهم -أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة
بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله
عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة
بن الجراح ، وهو رجل من أعاظم المهاجرين
أجمعين، فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، ومن الواضح أن المهاجرين لا
يضمرون في أنفسهم شرًّا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة، كما اتهمهم كثير من
المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل
هذا الحدث الهام؟
وفي هذه الأثناء، وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة، كان الأنصار قد خطوا
خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على
اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة زعيمًا للمسلمين، وخليفة لرسول الله ،
سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه ولا شك فضيلة
إيمانية عالية، فلو نذكر منذ سنوات معدودات، وقبل قدوم الرسول
إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث،
والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة بين الطرفين، أما الآن فقد تغيرت نفوس الأنصار،
وتركت حظ نفسها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس
حرجًا في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، ووقفوا جميعًا وراءه ولم يطرحوا
اسمًا أوسيًّا بديلاً، بل قبلوا به دونما أدنى جدل، إذن الرجل المرشح الأول
للخلافة هو: سعد بن عبادة، في نظر الأنصار، وسعد بن عبادة أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار، فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختيارًا موفقًا لا ريب.
من هو سعد بن عبادة المرشح الأول للخلافة من قِبَل الأنصار؟
للأسف إننا لا نعرف سعد بن عبادة، أو نعرفه بصورة مشوهة، هو سيد الخزرج،
وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، وكان شريفًا في قومه، وكان يجير للمطعم
بن عدي قوافله المارة بالمدينة قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف ، وكان ممن شهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وله مواقف مشهورة في الغزوات، ولا سيما في الخندق، حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله على رأيه في ذلك، كان رسول الله يُجله، ويقدره، ويكثر من زيارته، وذلك لمكانته بين الأنصار ..
يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أن رسول الله زارهم في بيتهم فقال: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". قال قيس: فرد أبي ردًّا خفيًّا، فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله؟ فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام. فقال : "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". وهنا ظن الرسول
أنه لا أحد بالبيت، فرجع، فتبعه سعد فقال: يا رسول الله، إني كنت أسمع
تسليمك، وأرد عليك ردًّا خفيًّا؛ لتكثر علينا من السلام, فانصرف النبي معه إلى بيته، وأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه ، وهو يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدٍ".
كان سعد
جوادًا واسع الكرم والسخاء، كان الرجل من الأنصار ينطلق بالرجل من فقراء
الصُّفة يطعمه، وينطلق الرجل من الأنصار بالرجلين، وينطلق الرجل من الأنصار
بالخمسة رجال، أما سعد بن عبادة، فكان ينطلق بالثمانين منهم وأرضاه.
وروى مسلم عن أبي أسيد الأنصاري أنه يشهد أن رسول الله قال: "خَيْرُ
دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبِدْ الأَشْهَلِ،
ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي
كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ".
ويبدو أن أحد الحضور قد شكك في كلام أبي أسيد وهو من بني ساعدة فقال: أَتَّهِمُ أَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ؟
لَوْ كُنْتُ كَاذِبًا لَبَدَأْتُ بِقَوْمِي بَنِي سَاعِدَةَ. وبلغ ذلك سعد
بن عبادة فوجد في نفسه حزن، وقال: خُلِّفْنَا فكنا آخر الأربع -سعد بن
عبادة من بني ساعدة- أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله ، فكلمه ابن أخيه سهل فقال له: أتذهب لترد على رسول الله ، ورسول الله أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع؟ فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحل عنه.
هكذا ببساطة رضي أن يكون رابع القبائل في الخيرية، وممن سبقه بنو عبد
الأشهل، وهم من الأوس، هذا مع كون سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكنه كان
وقافًا على كتاب الله، وعلى كلام رسوله ، فاكتفى بقوله: الله ورسوله أعلم.
نعود إلى سقيفة بني ساعدة، إذن اختار الأنصار سعد بن عبادة ، وكان مريضًا ،
ويجلس وهو مزمل بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره،
فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا، فكان يبلغ ابنه بالكلام، ويتحدث ابنه إلى
الناس، فقال سعد بن عبادة بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: يا معشر الأنصار.
ونلاحظ أنه لم يدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بعد، فليس هناك أحد من المهاجرين.
يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.
ونلاحظ هنا أنه يرفع شأن الأنصار فوق كل قبائل العرب بما فيها قبائل مكة وفيها قريش، لماذا؟ هو يفسر في خطبته فيقول: إن محمدًا
لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن
به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة.
وهنا ما نسي أن ينسب سعد بن عبادة الفضل لله .
يقول: وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له،
ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه
منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.
وطبعًا كلام سعد بن عبادة هنا كلام حقيقي وصحيح، فالمهاجرون في بدر مثلاً كانوا 82 أو83 بينما كان الأنصار231 رجلاً.
ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول: حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا
وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا. أي أن العرب جميعًا سلمت
القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.
يقول: حتى أغنى الله لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب.
وهنا سعد بن عبادة ، وكأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة الرسول ، لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الاتباع.
ثم يختم سعد بن عبادة خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفَّى الله رسوله ، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.
مع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معان عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالاً أن سعد بن عبادة ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم، وحب الرسول لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب.
ذكر كل ذلك لهدفين رئيسيين فيما يبدو لي:
الهدف الأول: هو رفع الحالة المعنوية للأنصار بعد المصاب الفادح بوفاة رسول الله ، ونفي الإحباط واليأس، والدعوة لاستمرار المسيرة كما بدأها، والثبات على أمر هذا الدين.
الهدف الثاني: هو التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة، فيما يبدو لهم
من حيث إنهم الذين نصروا، وآووا، وقاتلوا العرب، ومكنوا للدين.
وإجمالاً فالخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.
بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر ،
ومعه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار،
ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، فهذا قد يعطل البيعة،
نعم، الأنصار استقروا على سعد بن عبادة ، لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، لقد دخل الصديق أبو بكر الوزير الأول لرسول الله ، وثاني اثنين، والصاحب القريب إلى رسول الله ، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله ، والملهم المحدث، الفاروق، ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله ؛ لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة..
وهذا مما دعا السيدة عائشة أن تقول كما جاء في صحيح مسلم عندما سئلت: من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
ولقد مات أبو عبيدة في خلافة عمر سنة 18 هجرية، ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة، لو كان حيًّا.
إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من
الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين، إذن هنا ستحدث مواجهة،
الأنصار يريدون سعد بن عبادة ، والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، ولكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب، ترى ماذا سيقول المهاجرون؟
أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟
ما حدث في سقيفة بني ساعدة:
لنرَ كيف صور عمر بن الخطاب
الموقف، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم
في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد
بن عبادة.
وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس، فلفت نظر عمر بن الخطاب ، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.
يقول عمر: قلت: ما له؟ قالوا: يوعك -أي مريض- فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم.
حدثت لحظة من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة
قد يغير من الأمور، ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي
المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، لم يُشر
إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في (فتح
الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس ،
فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر، المهم أنه
أراد أن يتكلم كلامًا فصلاً، فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن
الخطاب : تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية أخرى: رهط منا.
هنا بوادر مشكلة، الخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام
وأنصار الله، بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية أخرى: رهط منا.
أي عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه التقط أن المهاجرين سيريدون الخلافة فيهم،
فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار، والأنصاري
بالطبع يقصد المهاجرين قبل فتح مكة، والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا
فلو اعتبروا أعداد القرشيين في مكة، والذين أسلموا بعد الفتح، فسيكونون
أضعاف وأضعاف الأنصار، وبذلك فإن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح أن
الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر، والذي نصر الإسلام في كل المشاهد،
والمواقع بنسبة دائمًا ما تكون أكبر من المهاجرين، هذا كان من باب التلميح،
ثم إنه بعد ذلك صرح، قال الخطيب الأنصاري: وقد دفت دافة من قومكم -أي جاءت
مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا -أي
يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر -أي يخرجونا منه- ثم
سكت.
لقد صرح الأنصاري الآن بشيء لا بد أن يحدث بعده جدال طويل، فقد قال
صراحة إنكم أيها المهاجرون، ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد جئتم
لتخرجونا من أمر هو يرى أنه حق الأنصار، فكيف يكون هذا؟
ها قد جاء موقف يقول فيه المسلمون: نحن الأنصار، و: نحن المهاجرون.
وهذا أمر خطير، ورسول الله
نهى عن ذلك تمامًا ونهى عن دعوى الجاهلية، والقبلية، ونهى عن فساد ذات
البين، ولا بد من الحكمة الشديدة، والحرص البالغ في معالجة الموقف، وهو ما
زال في بدايته، ويجب أن نلاحظ أن كل هذا الموقف يحدث نفس اليوم الذي توفي
فيه رسول الله ، ولم يدفن بعد.
يقول عمر بن الخطاب :
فلما سكت -أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني
-أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال
أبو بكر: على رسلك.
أي على مهلك، يعني أسكته، يريد أن يتكلم هو ، ولعله خشي أن يقول عمر بن الخطاب كلامًا شديدًا يعقد الموقف.
يقول عمر : فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر, وعمر وكذا كل الصحابة، كانوا يجلون أبا بكر إجلالاً كبيرًا، وكان إذا تكلم أنصتوا، يقول عمر: فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
كلمة أبي بكر في السقيفة:
ماذا قال أبو بكر الصديق أحكم الأمة بعد نبيها ؟
لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل في غاية الحكمة:
أولاً: يقول عمر: فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله إلا ذكره, يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ثم قال: لقد علمتم أن رسول الله قال: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ".
وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.
بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق
الأنصار، وأشاع جوًّا من السكينة في السقيفة، ووسع في صدر الأنصار، وأعطى
لكل ذي قدر قدره، هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله ورسوله الكريم محمد .
ثانيًا: أما وقد سكنت النفوس، فليذكر الحق الذي لا بد منه، قال الصديق : ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.
والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لماذا؟
لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم، فمنهم النبي ،
وهم أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب؛ لمكانة مكة الدينية
في قلوب الناس، فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت
قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلاً صالحًا
عادلاً تقيًّا، إذن ليست القضية تقليلاً، أو تهميشًا للأنصار، فإنهم فعلاً
أهل الفضل، وأنصار الإسلام وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط، حتى
نختار حاكمًا من أهلها عليها، ولكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم؛ ليفقهوا
أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب، ثم كل الأرض بعد
ذلك، وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلاً هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين،
أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟
ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع،
والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وبالذات في ذلك
الزمان، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة وعن الصحابة أجمعين؟
لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى.
إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق ، أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.
ثالثًا: يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث، فألقى جملة رائعة، قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.
فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بينهما. فالصديق يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين، بل أفضل المسلمين بعد رسول الله ، إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح، وذلك زهدًا في الخلافة، وبعدًا عن الدنيا، والصديق لا يقول هذا الكلام من باب السياسة، أو الحكمة، أبدًا، ففي ضوء سيرة الصديق نتبين أنه كان صادقًا تمامًا في عرضه هذا، وأنه ما رغب في إمارة، ولا سعى إليها، فلما بويع الصديق قام خطيبًا ذات يوم فقال:
"إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله لم أقم به، كان رسول
عبدًا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا إنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم،
فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني".
هذا الكلام يخرج فعلاً من قلب الصديق، وعندما تولى إمارة المسلمين ما
ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابدًا زاهدًا مجاهدًا، كان كثير
التفكر، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا، ولا بسلطة، ولا بقيادة،
إذن فالصديق كان صادقًا في عرضه مبايعة أحد الرجلين عمر، أو أبي عبيدة بن
الجراح، فالصديق كما نعلم قد أخرج حظ نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان
يقدر عمر، ويقدر أبا عبيدة، ويحفظ لهما مكانتهما، لكن على الجانب الآخر كان
الصحابة جميعًا يحفظون للصديق مكانته ووضعه.
لما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة، ماذا كان رد فعلهما؟ يعلق عمر
بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه، فيقول: فلم أكره مما قال غيرها، والله
لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم
فيهم أبو بكر.
وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقًا أن يموت
في غير معصية، ولا أن يُقَدّم على الصديق، أيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب
فيه المرشحون للرئاسة بعيدًا عن الرئاسة؟
الآن أصبح هناك رأيان:
- رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار، ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة.
- ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين. وكل له
حجته ومنطقه، وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا، بل هو خلاف على ملك ورئاسة
وسلطان، فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر..
رأي الحباب بن المنذر ورد عمر رضي الله عنهما:
قام الحباب بن المنذر ، ولو نتذكر، فالحباب بن المنذر هو الذي أشار على رسول الله بموقع المعركة في بدر، بعد أن نزل الرسول في منزل آخر، فوافقه رسول الله ، ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك، ولهذا يعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)، قام الحباب بن المنذر يعرض رأيًا رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، أي كما يقولون حلاًّ يُرضي جميع الأطراف، قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب.
والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به.
والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.
والعذيق: النخلة، تصغير عذق.
المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.
والمعنى أنه يُعتمد عليه، ولا نتعجب من أننا لا نعرف معناها، فقد سأل
أحد رواة الحديث الإمام مالك عن معناها فقال له: كأنه يقول أنا داهيتها.
وإجمالاً فهو يقصد أنه صاحب الرأي الذي سيأتي بما لا يختلف عليه أحد، فماذا قال؟
قال الحباب: منا أمير، ومنكم أمير.
أي أنه يريد اختيار أميرين، أمير من الأنصار على الأنصار، وأمير من
المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة
الإسلام سويًّا، وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب :
أولاًً: هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة، فمنذ
قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة سيكون خليفة على كامل دولة الإسلام،
ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، فهي
محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر، والالتقاء في منتصف الطريق.
ثانيًا: أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير.
أضاف قولاً آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في
فتح الباري، أضاف الحباب: فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف
أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.
يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من
القريشيين، وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون الخلافة
انتقموا من الأنصار، وهذا يضيف عاملاً آخر إلى جوار العوامل التي وضعها
الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم، كما ذكرنا من
قبل.
يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول: إن العرب لم تكن تعرف السيادة
على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم
أمير من غيرهم.
وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة، فإن رئيسها يكون منها، وقَبِل الجميع برسول الله ؛
لأنه كان نبيًّا، وكانت القبلية معوقًا رئيسيًّا لكثير من الناس في دخول
الإسلام، نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد
منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله ما مات إلا منذ سويعات قلائل، إذن الملاحظة الثانية:
أن ما جعل الأنصار يقول هذا القول ليس الحقد على المهاجرين، ولكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.
ثالثًا: بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب ،
أين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين،
بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة،
روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال
رسول الله : "وَمَنْ
بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ،
فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا
عُنُقَ الآخَرِ".
هكذا في منتهى الوضوح، ومن ثم فالحباب بن منذر
إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من
الخلافة، ولكن بأسلوب متدرج؛ منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة ، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة فإن كان الحكم قد خفي عن أحدهم، فلا بد أن آخرين قد أدركوا الصواب، قال عمر بن الخطاب : إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.
فقال خطيب الأنصار، ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس : إن رسول الله كان إذا استعمل رجلاً منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.
أي أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر، ولكن بتنازل
أكبر، أي أنه يقبل خليفة من المهاجرين مقرونًا معه بمساعد من الأنصار، لكن
يبدو أيضًا من كلامه أنه ليست وزارة للخليفة، بل هو أيضًا خليفة، ولكن في
درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضًا كما هو واضح ليس بمنطقي.
قام عمر بن الخطاب مرة ثانية وقال: هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله
لا ترضى العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي
أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة،
والسلطان المبين.
ثم قال: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.
ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتد، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو
قليلاً، والكلام الذي قاله يحتمل معانٍ كثيرة، فهو يقول أنه لا أحد من
العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد الإمارة، والأنصار من العرب، وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر ، وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر ،
هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه كما جاء في مسند الإمام أحمد
بسند صحيح، ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلاً جديدًا، قال:
إذن أولاً نختار رجلاً من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، كذلك أبدًا.
ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه، ويؤكد
فيقول: فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك
الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.
وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين،
إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، ولكنها ستحدث حتمًا، فقد يدخل
الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة، والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلاً بعد
موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم، فهذا الرأي
أيضًا لا يقبل.
وقف أيضًا عمر بن الخطاب ،
وكان شديدًا في الحق، حريصًا على الوضوح، بعيدًا كل البعد عن تمييع
الأمور، أو دفن النار تحت الرماد، قال في قوة وحدّة: لا والله، لا يخالفنا
أحد إلا قتلناه.
طبعًا هذه الكلمة شديدة، ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها، لكن عمر
يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، إن كانت الخلافة فعلاً من حق قريش،
فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا، فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع
القرشيين، ولن تبايع الأنصار، فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون
مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية، لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة،
والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع الرسول قتل الخليفة الآخر، إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه، وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.
ولذلك، سمي الفاروق فاروقًا، لأنه فعلاً في مواقف عدة، بل لعله في كل
مواقفه يكره اللون الرمادي الغير واضح، ويحب أن يوضح الأمور على حقيقتها،
هذا وإن كان يغضب بعض الناس، أو يظنون فيه الظنون، إلا أنه على المدى
البعيد يقمع الفتنة ويرسخ الطمأنينة.
لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة
عامة لا تقبل التهديد، وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس، قام فارس الأنصار
الحباب بن المنذر وأعاد وكرر رأيه: منا أمير، ومنكم أمير.
وقد أثارته كلمات الفاروق ، ولم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال: وإن شئتم كررناها خدعة.
أي أعدنا الحرب من جديد، أمر خطير، وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط.
ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار، والجدل، فإننا لم نسمع سعد بن عبادة ولا
مرة منذ دخل المهاجرون في أول اللقاء، لم يطلب لنفسه، ولم يبرر، ولم يقل قد
بايعني قومي، ثم لاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل، لم يذكروا ولو
مرة واحدة منًّا على المهاجرين، ولا تفضلاً عليهم، لم يقولوا مثلاً:
جئتمونا مطرودين فآويناكم، فقراء فأغنيناكم، محتاجين فأعطيناكم.
وهذا كله واقع صحيح، ولكن أدب وخلق الأنصار أغلق أبواب الشيطان، كما
نلاحظ أيضًا أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم، لم يقولوا ولو لمرة
واحدة أنهم أفضل من الأنصار، أو أن كفاءتهم القيادية، أو الإدارية، أو
الأخلاقية، أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار، أبدًا، كل ما يريدون ترسيخه
هو فقه الواقع، الواقع سواء كان حلوًا، أو مرًّا يقضي بأن العرب لن تطيع
إلا لقريش الآن، وبعد عشر سنين، وبعد مائة سنة، وما دام الواقع لم يحل
حرامًا، أو يحرم حلالاً، فلا بد من مراعاته، وكما ذكرنا من قبل:
لأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح، أو أقل صلاحًا، خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحًا.
هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة، ونلاحظ أيضًا في
هذا الموقف في سقيفة بني ساعدة أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يجتهدون
في الرأي، فيصيب بعضهم، فله أجران ويخطئ الآخر، فله أجر، فكما لا نرضى أن
يطعن المستشرقون، وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة، لا نقبل من
الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقًا بلا اختلاف، أو اجتماعًا
في الرأي دون تفرق فيه، أبدًا، الخلاف بين المسلمين أمر حتمي، لا بد أن
يحدث، بل حدث في عهد رسول الله ، واختلف المسلمون في قضايا كثيرة في وجوده ، بل اختلف
في بعض القضايا مع الصحابة, في القضايا التي ليس فيها وحي، بل أحيانًا كان
يرجح رأي الصحابة كما في قصة أسارى بدر عندما رجح رأي عمر بن الخطاب الرجل الموفق المحدث الملهم، الذي نزل القرآن الكريم موافقًا لرأيه في أمور عدة.
نعم، وَسِّعوا المدارك، واقبلوا الخلاف في الآراء، لكن لا بد من اجتماع القلوب مهما اختلفت الآراء.
نعود إلى موقف الصحابة، بعد الكلمات الأخيرة لعمر بن الخطاب والحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟
وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟
وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟
أبو عبيدة يغيّر خط الحوار في السقيفة:
إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا،
فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن
الجراح ،
الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة
على السقيفة في لحظة، قال: "يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا
تكونوا أول من بَدّل وَغيّر".
هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًّا
عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا، {وَالَّذِينَ
آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].
يا رسول الله، اقسم بين إخواننا النخيل.
رضينا برسول الله قسمًا.
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الأنصار يبدلون ويغيرون؟!
يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت.
نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله.
الله إنها ذكريات رائعة خالدة..
فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟
قال: "الْجَنَّةُ".
قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه.
أفاق الأنصار
أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا،
النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو
عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء،
تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد،
والشهادة، تذكروا إخوانًا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما
غيروا.
تذكروا سعد بن معاذ.
تذكروا أسعد بن زرارة.
تذكروا سعد بن الربيع.
تذكروا أنصارًا، عاشوا أنصارًا، وماتوا أنصارًا.
تذكروا رسول الله .
الحبيب الذي ما فارق إلا منذ قليل.
الذي ما زال نائمًا على سريره لم يدفن بعد.
الذي ما زال حيًّا في قلوبهم.
وسيظل كذلك حتى يموتون.
وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد
الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة
الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا
أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء
ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي
به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن
محمدًا من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن
حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن
قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
قام أسيد بن حضير
زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله
أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين
الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق
أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف
حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق،
وسعة اطلاعه على كتاب الله ، قال الصديق : إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.
وذلك في إشارة لقول : {لِلْفُقَرَاءِ
المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 8, 9].
ثم انظر إلى الاستنباط، قال: وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله ، قال: إن رسول الله أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.
وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ
دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا
اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم
في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.
بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة :
قام زيد بن ثابت الأنصاري فقال: إن رسول الله كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله .
وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة
لم ينطق بعد، وموقفه حرج جدًّا، فمنذ ساعة، أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة،
وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد، والآن الوضع ينقلب مائة
وثمانين درجة، ولا بد أنه الآن يفكر، ويفكر، ويعقد الموازنات، ويقارن الحجج
والأدلة، ويشاور عقله وقلبه، لا بد أن هناك صراعًا نفسيًّا داخليًّا في
داخله، أتراهم فعلاً على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش أم يكون الرأي
الصائب هو رأي الأنصار الأول؟
أفكار متزاحمة، والرجل مريض، ومرهق، ولا بد أن في داخله حيرة.
الصديق
يرقب الموقف في ذكاء، ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية، في هذا
الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًّا وقلبيًّا بأن المصلحة العليا
للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين، وبالذات من قريش، في هذا الوقت
الذي قامت فيه الأدلة، وتظاهرت على إقناع الأنصار، قام الصديق ،
قام فكشف الورقة الأخيرة في جعبته، وألقى بالدليل الدافع، والحجة الظاهرة
البينة التي ما تركت شكًّا في قلب أحد، ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو
مهاجري، كلمات معدودات ولكن أثقل من الذهب، قال الصديق : لقد علمت يا سعد -يخاطب سعد بن عبادة - أن رسول الله قال وأنت قاعد.
هو هنا يُذكّر سعد بن عبادة بشيء من الواضح أن سعد نساه، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله ، وإما للمرض، أو لغيره من الأسباب، قال الصديق :
لقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: "قُرَيْشٌ وُلاةُ هَذَا الأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ".
قانون وضعه ، صريح جدًّا، فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال: صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.
هكذا في بساطة، هكذا قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم
والمرشح الأول للخلافة عندهم, هكذا قطع بخلافة قريش دون الأنصار، وهدأت
السقيفة.
ولنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:
أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق ، هو تشريع واضح من رسول الله ،
والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين
الديمقراطية، فالديمقراطية هي حكم الشعب للشعب، بمعنى أنه لو اجتمع الشعب
على حكم صار تشريعًا يطبق عليه، خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه ،
بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل
معروف أو تحريم معروف، فلا يجوز مثلاً أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون
الخمر أم لا يبيعونه؟
أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟
أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟
لا يجوز هذا، هنا في هذا الموقف في السقيفة، لا يجوز اختيار رجل من غير
قريش حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار، الأمر خرج من أيديهم إلى يد
الله ، ورسوله محمد
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
أحيانًا يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف؛
لاعتبارات كثيرة، ولكن هذا قصور في الرؤية، وضعف في الإيمان، وشك في كلمة
التشريع، وهنا في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها يعقب الله بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
لا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلاً من غير قريش في هذا الاجتماع، لكان الضلال المبين بعينه، لكن الله
عصمهم من هذا الزلل، ومَنّ عليهم باتباع الشرع، واليقين فيه، والله أعلم
كيف كان سيكون حال الأمة، لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، وها قد مرت
الأيام، ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق ، وكيف الله ثبّت به الأمة ووطد أركان الدين ونشر كلمة التوحيد وأعلى شأن المؤمنين؟
وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد ، والله
لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل والتسليم القلبي والوجداني له،
بمعنى أن ترضى، ترضى رضًا حقيقيًّا بما اختاره الله لك، وللأمة، وبما شرعه
الله لك، وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
هذا ما رأيناه في السقيفة، رأينا حكم رسول الله
بين الناس، مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما
زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باق، ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس
الصحابة عند سماع كلام رسول الله ، وحكم الرسول ، ورأينا التسليم الكامل المطلق {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين، وثبت ذلك في أحاديث أخرى
كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، والملحوظ أن
رواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين وقت هذه المشاورة.
- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله :
وبالطبع فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمهم، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ".
وأيضًا لم يكن أبو هريرة حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : "هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ".
وأيضًا لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضرًا في السقيفة.
وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا
إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذُكّروا به، أو لم يفقهوا
معناه كاملاً، أو أذهلتهم مصيبة وفاة رسول الله
عن الاستدلال به، لكن الشاهد الذي لا ينكر أنه عندما ذكر هذا الحديث لم
يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده أو تفسيره على محمل آخر، هذا
كله دعا علماء المسلمين على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش:
- ذكر الإمام النووي مثلاً في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن
الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع
في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج
بإجماع الصحابة والتابعين.
- وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية:
اشتراط كونه قرشيًّا، هو مذهب العلماء كافة.
- وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين.
- وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد.
لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل
هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام، وهو كما جاء في رواية البخاري عن
معاوية: "مَا أَقَامُوا الدِّينَ".
وكما جاء في رواية عن أبي بكر: "مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ".
وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : "الأَئِمَّةُ
مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ
حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ
عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ".
إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها، ولم يتبعوا شرع الله فلا طاعة لهم ولا إمرة.
أمر هام في قضية الأئمة من قريش، وهو أن القرشيين كانوا معروفين في صدر
الإسلام، ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية، وخرج القرشيون وبقية
العرب من الجزيرة العربية واستقر، كثير منهم في كل بقاع الأرض، في الشام،
وآسيا، وشمال إفريقيا، والأندلس وغيرها، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض،
ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم، وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن،
فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن..
أضف إلى ذلك أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ومع مرور
الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا، وزاد الموقف صعوبة
بعد ذلك أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل إلى آل البيت وليسوا
منهم، وذلك رفعًا لقدرهم، وإعلاءً لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا
الانتساب، وقد كثرت هذه الشجرات حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول
الصحيحة من غيرها، في هذه القضية المعقدة هل تركنا الشرع دون طريق، حاشا
لله
{اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3].
قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : "اسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ
رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".
وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلاً في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله ،
وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة، والسمع والطاعة لهم، وهو
المقصود من الخلافة جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله .
إذن خلاصة هذه النقطة، أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق لماذا؟
لأنه تشريع، وسكنت السقيفة وذهب الخلاف واستقر الناس على قريش.
تعليق هام على الحوار القصير الذي دار بين أبي بكر الصديق، وسعد بن
عبادة رضي الله عنهما، الحق أن هذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على
الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعطِ للموقف حقه، ولم نعط لسعد بن عبادة حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، كيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا يعلمونه ولا يتعلمونه؟
كيف لا يظهرونه، وغيره من المواقف الخالدة في تاريخ المسلمين؟!
رجلٌ هو السيد في قومه، وكبير عائلته، يقف، وحوله الفرسان، والجنود، والأنصار، والعشيرة، وأين يقف؟
يقف في سقيفته، سقيفة بني ساعدة فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟
في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة، والرئاسة، والزعامة،
لا على شركة، أو مسجد، أو ناد، أو حزب، بل على أمة، على دولة، والرجل يتمتع
بذكاء، وفطنة، وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده، يقف هذا الرجل
المُمَكّن أمام رجل لاجئ سياسيًّا، لجأ إليه، إلى بلده، فر من قومه إليه،
فآواه، وأكرمه، ونصره، وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين فقط من
بلده، يقف الثلاثة في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له: "قريش
ولاة هذا الأمر".
وينزع الأمر الذي كان قد وُكِل إليه، ويعطيه إلى غيره، ماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟
إنه يقول في بساطة: "صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء".
لا جدل، ولا كلمة، ولا أخذ للحديث على محمل آخـر..
أيّ نفس طاهرة!
وأيّ روح زكية!
أيّ رجل وقاف على كتاب الله وعلى حديث رسول الله ! وأيّ تشويه قذر حدث لشخصه ولقومه الأنصار!
كم من الدماء حقنت! ولو شاء لسالت أنهارًا في شوارع المدينة..
كم من الأرواح حفظت! ولو شاء لقتلت بالآلاف..
أيّ فتنة قمعت!
وأيّ وحدة حدثت!
آثار مجيدة، ونتائج هامة لموقف وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة لله، وأين الدنيا في عين الأنصار؟
كما اتهمهم المستشرقون وأحباؤهم، أين الدنيا؟
لو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله ، أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد سيصبح في نظرهم مستفيدًا من نتائجه؟
المستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين:
إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، ويقيس
الأحداث بمقياس العصر الحديث حيث طغت المادية على الناس، وحيث ليس أقذر من
السياسة، وليس أكثر من المؤامرات، والدس، والكيد، والغش، والنفاق، والخداع،
هذا رجل جاهل من المستشرقين.
والرجل الآخر، هو رجل حاقد موتور، رأى دينا قيمًا، ورجالاً أخيارًا،
وتاريخًا ناصعًا خالدًا نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وغض بصره عنه،
وعلم الصواب وخالفه.
هؤلاء المستشرقون جُهّالاً كانوا أو حاقدين قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟!
أتراه عدلاً أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم، والأخلاق، والروائع،
ونذهب لدراسة تاريخ أوربا، أو تاريخ الفراعنة، أو تاريخ الحضارة في الصين
والهند؟!
أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبع دون سؤال ولا استفسار؟!
أتراه صحيحًا أن ينشغل عنه علماء المسلمين في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟!
أليس خيرًا لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية، وأصولنا الدينية؟
أي أمة أعظم من أمة الإسلام؟
وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟
تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق
يعرف هذا الحديث القاطع "ولاة الأمر من قريش"، فلماذا لم يذكره في أول
المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق ،
وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة
الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة
الإسلام، وأن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل
ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا
عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًّا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك،
اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية
والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًّا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية،
وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن
لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض
الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق وأرضاه.
تعليق رابع على كلام الصديق :
شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين، وهي أن الحديث من اختلاق الصديق؛ لكي
يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وواضح أن
المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل افتقروا أيضًا إلى الأدب،
واضح أنهم لا يعلمون شيئًا عن الصديق، وعن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة
أجمعين، ثم ألم يُروَ الحديث من طرق أخرى كثيرة، غير طريق الصديق ، وعن بعض الأنصار أيضًا، وجاء في كتاب الصحاح السنن في أكثر من موضع، ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟
أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟
أكانوا يتركون ملكًا لحديث مشكوك فيه؟
فإن قال المستشرقون أن الأنصار استحيوا من أبي بكر، فنقول: ألم تقولوا عنهم منذ قليل إنهم طلاب دنيا وسلطان؟
أيستحي طالب دنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟!
أليس انصياع الأنصار التام دليلاً على نبل أخلاقهم، وقيمهم من ناحية، ودليلاً على ارتفاع الصديق فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟
هذا والله أراه حقًّا لا ريب فيه، لكن ماذا أقول؟
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
لا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ.
ماذا قال أبو بكر الصديق أحكم الأمة بعد نبيها ؟
لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل في غاية الحكمة:
أولاً: يقول عمر: فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله إلا ذكره, يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ثم قال: لقد علمتم أن رسول الله قال: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ".
وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.
بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق
الأنصار، وأشاع جوًّا من السكينة في السقيفة، ووسع في صدر الأنصار، وأعطى
لكل ذي قدر قدره، هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله ورسوله الكريم محمد .
ثانيًا: أما وقد سكنت النفوس، فليذكر الحق الذي لا بد منه، قال الصديق : ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.
والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لماذا؟
لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم، فمنهم النبي ،
وهم أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب؛ لمكانة مكة الدينية
في قلوب الناس، فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت
قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلاً صالحًا
عادلاً تقيًّا، إذن ليست القضية تقليلاً، أو تهميشًا للأنصار، فإنهم فعلاً
أهل الفضل، وأنصار الإسلام وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط، حتى
نختار حاكمًا من أهلها عليها، ولكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم؛ ليفقهوا
أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب، ثم كل الأرض بعد
ذلك، وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلاً هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين،
أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟
ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع،
والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وبالذات في ذلك
الزمان، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة وعن الصحابة أجمعين؟
لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى.
إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق ، أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.
ثالثًا: يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث، فألقى جملة رائعة، قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.
فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بينهما. فالصديق يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين، بل أفضل المسلمين بعد رسول الله ، إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح، وذلك زهدًا في الخلافة، وبعدًا عن الدنيا، والصديق لا يقول هذا الكلام من باب السياسة، أو الحكمة، أبدًا، ففي ضوء سيرة الصديق نتبين أنه كان صادقًا تمامًا في عرضه هذا، وأنه ما رغب في إمارة، ولا سعى إليها، فلما بويع الصديق قام خطيبًا ذات يوم فقال:
"إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله لم أقم به، كان رسول
عبدًا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا إنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم،
فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني".
هذا الكلام يخرج فعلاً من قلب الصديق، وعندما تولى إمارة المسلمين ما
ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابدًا زاهدًا مجاهدًا، كان كثير
التفكر، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا، ولا بسلطة، ولا بقيادة،
إذن فالصديق كان صادقًا في عرضه مبايعة أحد الرجلين عمر، أو أبي عبيدة بن
الجراح، فالصديق كما نعلم قد أخرج حظ نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان
يقدر عمر، ويقدر أبا عبيدة، ويحفظ لهما مكانتهما، لكن على الجانب الآخر كان
الصحابة جميعًا يحفظون للصديق مكانته ووضعه.
لما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة، ماذا كان رد فعلهما؟ يعلق عمر
بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه، فيقول: فلم أكره مما قال غيرها، والله
لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم
فيهم أبو بكر.
وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقًا أن يموت
في غير معصية، ولا أن يُقَدّم على الصديق، أيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب
فيه المرشحون للرئاسة بعيدًا عن الرئاسة؟
الآن أصبح هناك رأيان:
- رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار، ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة.
- ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين. وكل له
حجته ومنطقه، وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا، بل هو خلاف على ملك ورئاسة
وسلطان، فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر..
رأي الحباب بن المنذر ورد عمر رضي الله عنهما:
قام الحباب بن المنذر ، ولو نتذكر، فالحباب بن المنذر هو الذي أشار على رسول الله بموقع المعركة في بدر، بعد أن نزل الرسول في منزل آخر، فوافقه رسول الله ، ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك، ولهذا يعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)، قام الحباب بن المنذر يعرض رأيًا رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، أي كما يقولون حلاًّ يُرضي جميع الأطراف، قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب.
والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به.
والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.
والعذيق: النخلة، تصغير عذق.
المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.
والمعنى أنه يُعتمد عليه، ولا نتعجب من أننا لا نعرف معناها، فقد سأل
أحد رواة الحديث الإمام مالك عن معناها فقال له: كأنه يقول أنا داهيتها.
وإجمالاً فهو يقصد أنه صاحب الرأي الذي سيأتي بما لا يختلف عليه أحد، فماذا قال؟
قال الحباب: منا أمير، ومنكم أمير.
أي أنه يريد اختيار أميرين، أمير من الأنصار على الأنصار، وأمير من
المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة
الإسلام سويًّا، وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب :
أولاًً: هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة، فمنذ
قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة سيكون خليفة على كامل دولة الإسلام،
ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، فهي
محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر، والالتقاء في منتصف الطريق.
ثانيًا: أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير.
أضاف قولاً آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في
فتح الباري، أضاف الحباب: فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف
أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.
يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من
القريشيين، وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون الخلافة
انتقموا من الأنصار، وهذا يضيف عاملاً آخر إلى جوار العوامل التي وضعها
الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم، كما ذكرنا من
قبل.
يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول: إن العرب لم تكن تعرف السيادة
على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم
أمير من غيرهم.
وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة، فإن رئيسها يكون منها، وقَبِل الجميع برسول الله ؛
لأنه كان نبيًّا، وكانت القبلية معوقًا رئيسيًّا لكثير من الناس في دخول
الإسلام، نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد
منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله ما مات إلا منذ سويعات قلائل، إذن الملاحظة الثانية:
أن ما جعل الأنصار يقول هذا القول ليس الحقد على المهاجرين، ولكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.
ثالثًا: بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب ،
أين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين،
بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة،
روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال
رسول الله : "وَمَنْ
بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ،
فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا
عُنُقَ الآخَرِ".
هكذا في منتهى الوضوح، ومن ثم فالحباب بن منذر
إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من
الخلافة، ولكن بأسلوب متدرج؛ منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة ، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة فإن كان الحكم قد خفي عن أحدهم، فلا بد أن آخرين قد أدركوا الصواب، قال عمر بن الخطاب : إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.
فقال خطيب الأنصار، ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس : إن رسول الله كان إذا استعمل رجلاً منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.
أي أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر، ولكن بتنازل
أكبر، أي أنه يقبل خليفة من المهاجرين مقرونًا معه بمساعد من الأنصار، لكن
يبدو أيضًا من كلامه أنه ليست وزارة للخليفة، بل هو أيضًا خليفة، ولكن في
درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضًا كما هو واضح ليس بمنطقي.
قام عمر بن الخطاب مرة ثانية وقال: هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله
لا ترضى العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي
أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة،
والسلطان المبين.
ثم قال: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.
ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتد، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو
قليلاً، والكلام الذي قاله يحتمل معانٍ كثيرة، فهو يقول أنه لا أحد من
العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد الإمارة، والأنصار من العرب، وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر ، وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر ،
هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه كما جاء في مسند الإمام أحمد
بسند صحيح، ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلاً جديدًا، قال:
إذن أولاً نختار رجلاً من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، كذلك أبدًا.
ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه، ويؤكد
فيقول: فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك
الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.
وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين،
إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، ولكنها ستحدث حتمًا، فقد يدخل
الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة، والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلاً بعد
موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم، فهذا الرأي
أيضًا لا يقبل.
وقف أيضًا عمر بن الخطاب ،
وكان شديدًا في الحق، حريصًا على الوضوح، بعيدًا كل البعد عن تمييع
الأمور، أو دفن النار تحت الرماد، قال في قوة وحدّة: لا والله، لا يخالفنا
أحد إلا قتلناه.
طبعًا هذه الكلمة شديدة، ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها، لكن عمر
يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، إن كانت الخلافة فعلاً من حق قريش،
فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا، فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع
القرشيين، ولن تبايع الأنصار، فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون
مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية، لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة،
والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع الرسول قتل الخليفة الآخر، إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه، وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.
ولذلك، سمي الفاروق فاروقًا، لأنه فعلاً في مواقف عدة، بل لعله في كل
مواقفه يكره اللون الرمادي الغير واضح، ويحب أن يوضح الأمور على حقيقتها،
هذا وإن كان يغضب بعض الناس، أو يظنون فيه الظنون، إلا أنه على المدى
البعيد يقمع الفتنة ويرسخ الطمأنينة.
لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة
عامة لا تقبل التهديد، وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس، قام فارس الأنصار
الحباب بن المنذر وأعاد وكرر رأيه: منا أمير، ومنكم أمير.
وقد أثارته كلمات الفاروق ، ولم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال: وإن شئتم كررناها خدعة.
أي أعدنا الحرب من جديد، أمر خطير، وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط.
ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار، والجدل، فإننا لم نسمع سعد بن عبادة ولا
مرة منذ دخل المهاجرون في أول اللقاء، لم يطلب لنفسه، ولم يبرر، ولم يقل قد
بايعني قومي، ثم لاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل، لم يذكروا ولو
مرة واحدة منًّا على المهاجرين، ولا تفضلاً عليهم، لم يقولوا مثلاً:
جئتمونا مطرودين فآويناكم، فقراء فأغنيناكم، محتاجين فأعطيناكم.
وهذا كله واقع صحيح، ولكن أدب وخلق الأنصار أغلق أبواب الشيطان، كما
نلاحظ أيضًا أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم، لم يقولوا ولو لمرة
واحدة أنهم أفضل من الأنصار، أو أن كفاءتهم القيادية، أو الإدارية، أو
الأخلاقية، أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار، أبدًا، كل ما يريدون ترسيخه
هو فقه الواقع، الواقع سواء كان حلوًا، أو مرًّا يقضي بأن العرب لن تطيع
إلا لقريش الآن، وبعد عشر سنين، وبعد مائة سنة، وما دام الواقع لم يحل
حرامًا، أو يحرم حلالاً، فلا بد من مراعاته، وكما ذكرنا من قبل:
لأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح، أو أقل صلاحًا، خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحًا.
هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة، ونلاحظ أيضًا في
هذا الموقف في سقيفة بني ساعدة أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يجتهدون
في الرأي، فيصيب بعضهم، فله أجران ويخطئ الآخر، فله أجر، فكما لا نرضى أن
يطعن المستشرقون، وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة، لا نقبل من
الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقًا بلا اختلاف، أو اجتماعًا
في الرأي دون تفرق فيه، أبدًا، الخلاف بين المسلمين أمر حتمي، لا بد أن
يحدث، بل حدث في عهد رسول الله ، واختلف المسلمون في قضايا كثيرة في وجوده ، بل اختلف
في بعض القضايا مع الصحابة, في القضايا التي ليس فيها وحي، بل أحيانًا كان
يرجح رأي الصحابة كما في قصة أسارى بدر عندما رجح رأي عمر بن الخطاب الرجل الموفق المحدث الملهم، الذي نزل القرآن الكريم موافقًا لرأيه في أمور عدة.
نعم، وَسِّعوا المدارك، واقبلوا الخلاف في الآراء، لكن لا بد من اجتماع القلوب مهما اختلفت الآراء.
نعود إلى موقف الصحابة، بعد الكلمات الأخيرة لعمر بن الخطاب والحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟
وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟
وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟
أبو عبيدة يغيّر خط الحوار في السقيفة:
إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا،
فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن
الجراح ،
الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة
على السقيفة في لحظة، قال: "يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا
تكونوا أول من بَدّل وَغيّر".
هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًّا
عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا، {وَالَّذِينَ
آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].
يا رسول الله، اقسم بين إخواننا النخيل.
رضينا برسول الله قسمًا.
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الأنصار يبدلون ويغيرون؟!
يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت.
نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله.
الله إنها ذكريات رائعة خالدة..
فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟
قال: "الْجَنَّةُ".
قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه.
أفاق الأنصار
أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا،
النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو
عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء،
تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد،
والشهادة، تذكروا إخوانًا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما
غيروا.
تذكروا سعد بن معاذ.
تذكروا أسعد بن زرارة.
تذكروا سعد بن الربيع.
تذكروا أنصارًا، عاشوا أنصارًا، وماتوا أنصارًا.
تذكروا رسول الله .
الحبيب الذي ما فارق إلا منذ قليل.
الذي ما زال نائمًا على سريره لم يدفن بعد.
الذي ما زال حيًّا في قلوبهم.
وسيظل كذلك حتى يموتون.
وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد
الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة
الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا
أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء
ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي
به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن
محمدًا من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن
حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن
قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
قام أسيد بن حضير
زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله
أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين
الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق
أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف
حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق،
وسعة اطلاعه على كتاب الله ، قال الصديق : إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.
وذلك في إشارة لقول : {لِلْفُقَرَاءِ
المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 8, 9].
ثم انظر إلى الاستنباط، قال: وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله ، قال: إن رسول الله أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.
وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ
دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا
اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم
في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.
بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة :
قام زيد بن ثابت الأنصاري فقال: إن رسول الله كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله .
وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة
لم ينطق بعد، وموقفه حرج جدًّا، فمنذ ساعة، أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة،
وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد، والآن الوضع ينقلب مائة
وثمانين درجة، ولا بد أنه الآن يفكر، ويفكر، ويعقد الموازنات، ويقارن الحجج
والأدلة، ويشاور عقله وقلبه، لا بد أن هناك صراعًا نفسيًّا داخليًّا في
داخله، أتراهم فعلاً على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش أم يكون الرأي
الصائب هو رأي الأنصار الأول؟
أفكار متزاحمة، والرجل مريض، ومرهق، ولا بد أن في داخله حيرة.
الصديق
يرقب الموقف في ذكاء، ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية، في هذا
الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًّا وقلبيًّا بأن المصلحة العليا
للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين، وبالذات من قريش، في هذا الوقت
الذي قامت فيه الأدلة، وتظاهرت على إقناع الأنصار، قام الصديق ،
قام فكشف الورقة الأخيرة في جعبته، وألقى بالدليل الدافع، والحجة الظاهرة
البينة التي ما تركت شكًّا في قلب أحد، ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو
مهاجري، كلمات معدودات ولكن أثقل من الذهب، قال الصديق : لقد علمت يا سعد -يخاطب سعد بن عبادة - أن رسول الله قال وأنت قاعد.
هو هنا يُذكّر سعد بن عبادة بشيء من الواضح أن سعد نساه، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله ، وإما للمرض، أو لغيره من الأسباب، قال الصديق :
لقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: "قُرَيْشٌ وُلاةُ هَذَا الأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ".
قانون وضعه ، صريح جدًّا، فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال: صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.
هكذا في بساطة، هكذا قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم
والمرشح الأول للخلافة عندهم, هكذا قطع بخلافة قريش دون الأنصار، وهدأت
السقيفة.
ولنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:
أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق ، هو تشريع واضح من رسول الله ،
والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين
الديمقراطية، فالديمقراطية هي حكم الشعب للشعب، بمعنى أنه لو اجتمع الشعب
على حكم صار تشريعًا يطبق عليه، خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه ،
بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل
معروف أو تحريم معروف، فلا يجوز مثلاً أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون
الخمر أم لا يبيعونه؟
أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟
أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟
لا يجوز هذا، هنا في هذا الموقف في السقيفة، لا يجوز اختيار رجل من غير
قريش حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار، الأمر خرج من أيديهم إلى يد
الله ، ورسوله محمد
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
أحيانًا يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف؛
لاعتبارات كثيرة، ولكن هذا قصور في الرؤية، وضعف في الإيمان، وشك في كلمة
التشريع، وهنا في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها يعقب الله بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
لا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلاً من غير قريش في هذا الاجتماع، لكان الضلال المبين بعينه، لكن الله
عصمهم من هذا الزلل، ومَنّ عليهم باتباع الشرع، واليقين فيه، والله أعلم
كيف كان سيكون حال الأمة، لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، وها قد مرت
الأيام، ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق ، وكيف الله ثبّت به الأمة ووطد أركان الدين ونشر كلمة التوحيد وأعلى شأن المؤمنين؟
وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد ، والله
لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل والتسليم القلبي والوجداني له،
بمعنى أن ترضى، ترضى رضًا حقيقيًّا بما اختاره الله لك، وللأمة، وبما شرعه
الله لك، وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
هذا ما رأيناه في السقيفة، رأينا حكم رسول الله
بين الناس، مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما
زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باق، ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس
الصحابة عند سماع كلام رسول الله ، وحكم الرسول ، ورأينا التسليم الكامل المطلق {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين، وثبت ذلك في أحاديث أخرى
كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، والملحوظ أن
رواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين وقت هذه المشاورة.
- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله :
وبالطبع فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمهم، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ".
وأيضًا لم يكن أبو هريرة حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : "هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ".
وأيضًا لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضرًا في السقيفة.
وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا
إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذُكّروا به، أو لم يفقهوا
معناه كاملاً، أو أذهلتهم مصيبة وفاة رسول الله
عن الاستدلال به، لكن الشاهد الذي لا ينكر أنه عندما ذكر هذا الحديث لم
يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده أو تفسيره على محمل آخر، هذا
كله دعا علماء المسلمين على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش:
- ذكر الإمام النووي مثلاً في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن
الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع
في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج
بإجماع الصحابة والتابعين.
- وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية:
اشتراط كونه قرشيًّا، هو مذهب العلماء كافة.
- وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين.
- وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد.
لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل
هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام، وهو كما جاء في رواية البخاري عن
معاوية: "مَا أَقَامُوا الدِّينَ".
وكما جاء في رواية عن أبي بكر: "مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ".
وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : "الأَئِمَّةُ
مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ
حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ
عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ".
إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها، ولم يتبعوا شرع الله فلا طاعة لهم ولا إمرة.
أمر هام في قضية الأئمة من قريش، وهو أن القرشيين كانوا معروفين في صدر
الإسلام، ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية، وخرج القرشيون وبقية
العرب من الجزيرة العربية واستقر، كثير منهم في كل بقاع الأرض، في الشام،
وآسيا، وشمال إفريقيا، والأندلس وغيرها، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض،
ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم، وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن،
فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن..
أضف إلى ذلك أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ومع مرور
الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا، وزاد الموقف صعوبة
بعد ذلك أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل إلى آل البيت وليسوا
منهم، وذلك رفعًا لقدرهم، وإعلاءً لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا
الانتساب، وقد كثرت هذه الشجرات حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول
الصحيحة من غيرها، في هذه القضية المعقدة هل تركنا الشرع دون طريق، حاشا
لله
{اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3].
قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : "اسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ
رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".
وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلاً في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله ،
وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة، والسمع والطاعة لهم، وهو
المقصود من الخلافة جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله .
إذن خلاصة هذه النقطة، أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق لماذا؟
لأنه تشريع، وسكنت السقيفة وذهب الخلاف واستقر الناس على قريش.
تعليق هام على الحوار القصير الذي دار بين أبي بكر الصديق، وسعد بن
عبادة رضي الله عنهما، الحق أن هذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على
الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعطِ للموقف حقه، ولم نعط لسعد بن عبادة حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، كيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا يعلمونه ولا يتعلمونه؟
كيف لا يظهرونه، وغيره من المواقف الخالدة في تاريخ المسلمين؟!
رجلٌ هو السيد في قومه، وكبير عائلته، يقف، وحوله الفرسان، والجنود، والأنصار، والعشيرة، وأين يقف؟
يقف في سقيفته، سقيفة بني ساعدة فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟
في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة، والرئاسة، والزعامة،
لا على شركة، أو مسجد، أو ناد، أو حزب، بل على أمة، على دولة، والرجل يتمتع
بذكاء، وفطنة، وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده، يقف هذا الرجل
المُمَكّن أمام رجل لاجئ سياسيًّا، لجأ إليه، إلى بلده، فر من قومه إليه،
فآواه، وأكرمه، ونصره، وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين فقط من
بلده، يقف الثلاثة في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له: "قريش
ولاة هذا الأمر".
وينزع الأمر الذي كان قد وُكِل إليه، ويعطيه إلى غيره، ماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟
إنه يقول في بساطة: "صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء".
لا جدل، ولا كلمة، ولا أخذ للحديث على محمل آخـر..
أيّ نفس طاهرة!
وأيّ روح زكية!
أيّ رجل وقاف على كتاب الله وعلى حديث رسول الله ! وأيّ تشويه قذر حدث لشخصه ولقومه الأنصار!
كم من الدماء حقنت! ولو شاء لسالت أنهارًا في شوارع المدينة..
كم من الأرواح حفظت! ولو شاء لقتلت بالآلاف..
أيّ فتنة قمعت!
وأيّ وحدة حدثت!
آثار مجيدة، ونتائج هامة لموقف وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة لله، وأين الدنيا في عين الأنصار؟
كما اتهمهم المستشرقون وأحباؤهم، أين الدنيا؟
لو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله ، أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد سيصبح في نظرهم مستفيدًا من نتائجه؟
المستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين:
إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، ويقيس
الأحداث بمقياس العصر الحديث حيث طغت المادية على الناس، وحيث ليس أقذر من
السياسة، وليس أكثر من المؤامرات، والدس، والكيد، والغش، والنفاق، والخداع،
هذا رجل جاهل من المستشرقين.
والرجل الآخر، هو رجل حاقد موتور، رأى دينا قيمًا، ورجالاً أخيارًا،
وتاريخًا ناصعًا خالدًا نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وغض بصره عنه،
وعلم الصواب وخالفه.
هؤلاء المستشرقون جُهّالاً كانوا أو حاقدين قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟!
أتراه عدلاً أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم، والأخلاق، والروائع،
ونذهب لدراسة تاريخ أوربا، أو تاريخ الفراعنة، أو تاريخ الحضارة في الصين
والهند؟!
أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبع دون سؤال ولا استفسار؟!
أتراه صحيحًا أن ينشغل عنه علماء المسلمين في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟!
أليس خيرًا لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية، وأصولنا الدينية؟
أي أمة أعظم من أمة الإسلام؟
وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟
تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق
يعرف هذا الحديث القاطع "ولاة الأمر من قريش"، فلماذا لم يذكره في أول
المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق ،
وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة
الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة
الإسلام، وأن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل
ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا
عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًّا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك،
اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية
والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًّا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية،
وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن
لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض
الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق وأرضاه.
تعليق رابع على كلام الصديق :
شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين، وهي أن الحديث من اختلاق الصديق؛ لكي
يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وواضح أن
المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل افتقروا أيضًا إلى الأدب،
واضح أنهم لا يعلمون شيئًا عن الصديق، وعن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة
أجمعين، ثم ألم يُروَ الحديث من طرق أخرى كثيرة، غير طريق الصديق ، وعن بعض الأنصار أيضًا، وجاء في كتاب الصحاح السنن في أكثر من موضع، ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟
أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟
أكانوا يتركون ملكًا لحديث مشكوك فيه؟
فإن قال المستشرقون أن الأنصار استحيوا من أبي بكر، فنقول: ألم تقولوا عنهم منذ قليل إنهم طلاب دنيا وسلطان؟
أيستحي طالب دنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟!
أليس انصياع الأنصار التام دليلاً على نبل أخلاقهم، وقيمهم من ناحية، ودليلاً على ارتفاع الصديق فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟
هذا والله أراه حقًّا لا ريب فيه، لكن ماذا أقول؟
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
لا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ.
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
أبو بكر الصديق وحب الرسول
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن
تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ثم أما بعد:
فإنا
قد ذكرنا من قبل ذلك الكثير عن أهمية دراسة التاريخ، وأشرنا في مؤلفات
متعددة إلى أنه لا جديد على الأرض، التاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة.
نفس
الأحداث نراها رأي العين، باختلاف في الأسماء والأمكنة، فدارس التاريخ
بعمق كأنه يرى المستقبل، ويقرأ ما يَجِدّ على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع
بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.
دارس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه؟ وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته؟
دارس
التاريخ بعمق كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد
أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا؟ وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض
يكفينا الأمر الإلهي الحكيم: {فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
فقص القصة، أو رواية الرواية لا يغني شيئًا إن لم يتبع بتفكر.
دراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية.
دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.
في
دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وسنجد أننا
في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة، وأمور من الفقه، وأمور من
الأخلاق، وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام.
نعرض لفقه الموازنات، وفقه الأولويات، نعرض لفقه الواقع، أو إن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين.
هكذا
كان الله في كتابه الحكيم يقص القصة، فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل،
ويعرض فيها الرقيقة التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمرًا عقائديًّا، وقد
يعرض فيها حكما فقهيًّا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع،
والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حيٌّ ينبض، ولسانٌ ينطق.
أبدًا هو لا يحدثنا عن رجال ماتوا، ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة.
وإنما هو يحدثنا عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.
التاريخ
ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، تحتاج إلى
عقول، وقلوب، وجوارح، تحتاج إليكم جميعًا يا من ترجون للإسلام قيامًا.
والتاريخ الإسلامي هو -ولا شك في ذلك- أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، وسعدت الدنيا بتدوينه.
التاريخ
الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة, أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو
تاريخ أمة آمرةٍ بالمعروف ناهيةٍ عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل
شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال
فقهوا دينهم، ودنياهم، فأداروا الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، فتحققت
المعادلة الصعبة العجيبة: عزٌ في الدنيا، وعز في الآخرة، مجد في الدنيا،
ومجد في الآخرة، ملك في الدنيا، وملك في الآخرة.
التاريخ الإسلامي هو
تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية, جمعت الأخلاق،
والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والمعمار، والقضاء، والترفيه، والقوة،
والإعداد، والذكاء، والتدبير.
جمعت كل ذلك جنبًا إلى جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة، وصدق التوجه، ونبل الغاية.
وصدق الله تعالى إذ يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
هذا هو التاريخ في أصله وجوهره.
ولا
يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوبًا بعضها خطير، وإنه لمن
العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن
نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام.
فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا
خطأ فيه، ولا عيب فيه، دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى،
سبحانه الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين، فوباله على نفسه،
وليس على الإسلام.
وكثيرًا ما يخالف الناس، فتحدث هزات وسقطات،
لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى دينهم، وإلا
استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين.
ثم وقفة وسؤال:أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن
تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ثم أما بعد:
فإنا
قد ذكرنا من قبل ذلك الكثير عن أهمية دراسة التاريخ، وأشرنا في مؤلفات
متعددة إلى أنه لا جديد على الأرض، التاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة.
نفس
الأحداث نراها رأي العين، باختلاف في الأسماء والأمكنة، فدارس التاريخ
بعمق كأنه يرى المستقبل، ويقرأ ما يَجِدّ على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع
بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.
دارس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه؟ وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته؟
دارس
التاريخ بعمق كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد
أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا؟ وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض
يكفينا الأمر الإلهي الحكيم: {فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
فقص القصة، أو رواية الرواية لا يغني شيئًا إن لم يتبع بتفكر.
دراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية.
دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.
في
دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وسنجد أننا
في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة، وأمور من الفقه، وأمور من
الأخلاق، وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام.
نعرض لفقه الموازنات، وفقه الأولويات، نعرض لفقه الواقع، أو إن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين.
هكذا
كان الله في كتابه الحكيم يقص القصة، فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل،
ويعرض فيها الرقيقة التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمرًا عقائديًّا، وقد
يعرض فيها حكما فقهيًّا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع،
والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حيٌّ ينبض، ولسانٌ ينطق.
أبدًا هو لا يحدثنا عن رجال ماتوا، ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة.
وإنما هو يحدثنا عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.
التاريخ
ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، تحتاج إلى
عقول، وقلوب، وجوارح، تحتاج إليكم جميعًا يا من ترجون للإسلام قيامًا.
والتاريخ الإسلامي هو -ولا شك في ذلك- أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، وسعدت الدنيا بتدوينه.
التاريخ
الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة, أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو
تاريخ أمة آمرةٍ بالمعروف ناهيةٍ عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل
شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال
فقهوا دينهم، ودنياهم، فأداروا الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، فتحققت
المعادلة الصعبة العجيبة: عزٌ في الدنيا، وعز في الآخرة، مجد في الدنيا،
ومجد في الآخرة، ملك في الدنيا، وملك في الآخرة.
التاريخ الإسلامي هو
تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية, جمعت الأخلاق،
والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والمعمار، والقضاء، والترفيه، والقوة،
والإعداد، والذكاء، والتدبير.
جمعت كل ذلك جنبًا إلى جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة، وصدق التوجه، ونبل الغاية.
وصدق الله تعالى إذ يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
هذا هو التاريخ في أصله وجوهره.
ولا
يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوبًا بعضها خطير، وإنه لمن
العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن
نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام.
فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا
خطأ فيه، ولا عيب فيه، دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى،
سبحانه الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين، فوباله على نفسه،
وليس على الإسلام.
وكثيرًا ما يخالف الناس، فتحدث هزات وسقطات،
لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى دينهم، وإلا
استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين.
هذه الثروة وهذا الكنز العظيم، ثروة التاريخ الإسلامي الطويل، مَن مِن البشر في زماننا أمَّنّاه عليها؟
مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية؛ لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟
مَن مِن البشر أسلمناه أذننا، وعقولنا، وأفئدتنا؛ ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟
عجبًا لأمتنا!!
لقد
أعطت ذلك لحفنة من الأشرار، طائفة من المستشرقين، وطائفة من المفتونين بهم
من أبناء المسلمين تسلموا كنز التاريخ؛ لينهبوا أجمل ما فيه وليغيروا
ويبدلوا ويزوروا، فيخرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا، فتقطع حلقة
المجد، وينفصل المسلمين في حاضرهم عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد
تمامًا بتمام.
انتبه الشباب فوجدوا بين أيديهم سجلاً حافلاً من
الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات، صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود،
واحتار الشباب في تاريخهم أيمسكونه على هونٍ أم يدسونه في التراب؟!
فويلٌ، ثم ويل لمن افترى على الله كذبًا؛ ليضل الناس بغير علم.
وويل،
ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية، فصاغوا التاريخ
صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة
لكل أمر من أمور الدين.
وويل، ثم ويل لمن يقدر على التصحيح فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل، ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل.
يقول جابر بن عبد الله: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أُنزل على محمد .
يا الله! لهذه الدرجة؟
من سمع طعنًا في الصحابة، أو في الصالحين من الأمة، ثم لم يَرُد، كان كمن كتم ما أُنْزل على رسول الله ؟
نعم؛ لأنه: كيف وصل إلينا ما نزل على رسول الله ؟
ألم يصل إلينا عن طريق الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين؟
فإذا طُعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة، لم يُقبل ما يأتي عن طريقهم.
و هذا هَدم للدين بالكلية.
إذن تزوير التاريخ أمر خطير مروع، يحتاج إلى وقفات ووقفات.
و لهذا كانت هذه السطور.
ولقد
اخترت لكم حدثًا جليلاً عظيمًا من أحداث التاريخ الإسلامي آثرت أن أفرد له
هذا البحث، حتى ندرسه ونفقهه ونحلله؛ فنتحرك به خطوة، بل خطوات إن شاء
الله إلى الأمام.
هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبو بكر الصديق وأرضاه على المسلمين بعد وفاة رسول .
ولاحظوا
أنني أقول استخلاف أبي بكر الصديق، ولا أقول أني سأحدثكم عن خلافة أبي بكر
الصديق، فهذا يطول ويتشعب، لكني فقط في هذا البحث أتحدث عن قصة الاستخلاف:
كيف اختير أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين؟
وكيف تم؟
وما هي خطواته وما هي تبعاته؟
ماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟
وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟
والحق أن كثيرًا من القراء قد يتعجبون لإفراد هذا الحدث، الذي يعدونه حدثًا قصيرًا بسيطًا في التاريخ ببحث خاص.
فالحدث تم في أقل من يوم واحد، وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرنًا من الزمان، فهل نفرد له بحثًا خاصا؟
ولماذا هذا الحدث بالذات؟
وأجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:
أولاً: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
أجمعين، تعتبر من أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها المسلمين، ويجب أن
يحرصوا على دراستها دراسة وافية، مستفيضة شاملة لكل نقاط حياتهم، فهي فترة
من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة الرسول ، لماذا؟
لأن هذه الفترة تعتبر جزءًا من التشريع الخاص بالمسلمين، وقد يستغرب البعض أن هناك تشريعًا بعد رسول الله ، ولكن الواقع أن كثيرًا من الأمور جدت على حياة المسلمين بعد وفاة الرسول ،
وكانت هذه الأمور تحتاج إلى فقهٍ واجتهاد، فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار
واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها، وسارت الأمة معهم، فكانت تشريعًا
للمسلمين.
حدثت أمورٌ ما كان لها شبيه في حياة الرسول منها هذا الحدث الذي نحن بصدده وهو: اختيار خليفة للمسلمين.
ومنها فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور.
ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.
فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين على الإطلاق، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.
من هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله الذي رواه الترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية قال:
وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ
مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا
الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ
مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى
اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ،
وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا".
وصدقت
يا رسول الله، ونحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، تشعبت
بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟
في أي طريق نسير؟
وأي المناهج نتبع؟
وأي الأساليب نختار؟
انظر إلى نصيحة رسول الله : "وَإِنَّهُ
مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ
بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (بالأضراس) وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ".
عندما تتشعب الطرق عليك بسنة رسول الله .
هذا بالطبع مفهوم، لكن لماذا يضيف :
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ؟
إذا كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة الرسول ، فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا الرسول في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين.
لكن
الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضعت أشياء كثيرة كانت
تحتاج إلى عقول ذكية، وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما
يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل شَرْع للأمة إلى يوم الدين.
خلاصة هذه
النقطة أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، لا
بد أن يعطي له المسلمون اهتمامًا خاصًا, وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في
عهد الخلفاء؛ ولذلك سنتحدث عنها، ثم يليها إن شاء الله الحديث عن الأحداث
الأخرى.
ثانيًا: الذي يهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق ، أننا سنستخلص أحكامًا وأمورًا هامة من هذه الحادثة تفيد جدًّا في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحا:
ما هو معنى الشورى؟
وكيف التصرف عند الاختلاف؟
وما هي طرق عرض وجهات النظر؟
ولماذا يختار رجلٌ دون آخرٍ لإمارة ما؟
وأمورٌ أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.
ثالثًا: إن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله .
ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله أمرُ صعب، والأصعب من ذلك غياب الوحي وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحًا من قصة أم أيمن:
روى مسلم عن أنس قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول : انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا
يُبْكِيكِ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ
اللَّهِ ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لا أَبْكِي أَنِّي لا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيِ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ مَعَهَا.
الصحابة كانوا يعيشون الوحي، وتخيل معي الأمر الغريب، كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله بما يريده الله منهم.
الله يقول لكم كذا.
الله ينهاكم عن كذا.
الله غفر لفلان.
الله يحب فلان.
الله يبشر فلان بالجنة.
الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.
إذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأيًا على رأي، ويعدل المسار ويصحح الوجهة.
وفجأة انقطع الوحي بموت الرسول ، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله ، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا:
أين غضب الله؟
وأين رضاه؟
إذا
اختلفوا عليهم أن يختاروا رأيا دون انتظار التعديل الإلهي، نعم وضع الله
ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع
الوحي، والموقف بعد انقطاع الوحي.
وحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولا بد أن في دراستها عبرًا لا تحصى، وفوائد لا تقدر بثمن.
رابعًا:
وتأتي أهمية حادث الاستخلاف أيضًا في أنه تبعه أحداث جسام في حياة
المسلمين ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق
ليكون خليفة للمسلمين، فالرجل له طابع يختلف عن كثير من الصحابة، سنتعرف
عليه إن شاء الله في هذه السطور، وستشعر كم كان الله رحيمًا بالمؤمنين،
ومسدِدًا لخطاهم لَمّا يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة
الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله .
على سبيل المثال:
حرب الردة، فلولا أبو بكر الصديق لما كانت تلك الحروب الضارية الدامية الواسعة النطاق.
أيضا
الفتوحات الإسلامية العجيبة لدولة فارس والروم، أحداث من العجب أن تتكرر
على هذه الصورة، إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق، قد يكون من السهل
على من تبعه من خلفاء أن يقوموا بالفتوحات من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق،
لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسَنّ سُنّة حسنة تبعه فيها
الآخرون.
حادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه
الأحداث الجسام، فلابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه
الأحداث العجيبة.
خامسًا: ومن أهمية دراسة هذا الحدث الخطير أيضًا أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة.
لم
يتركوا أحدًا، ضربوا كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ
ما يكون، طعنوا في أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وعائشة، وسعد بن
عبادة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، والسيدة فاطمة، بل طعنوا في علي بن أبي
طالب في صورة الثناء عليه، وذموه في صورة المدح، طعنوا في العباس بن المطلب
عم رسول الله .
خلاصة الأمر أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال، وخير القرون.
فإن كان هم كذلك، فأي خير يرتجي مَن جاء مِن بعدهم؟
وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟
وكيف نقبل باجتهادهم؟
فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه ويدمرون الإسلام في أصوله.
هذا
الكلام، ليس تاريخًا قديمًا فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن
غير ذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في
الجامعات المتخصصة سواء في الجامعات المحلية، أو الجامعات الغربية التي
تفتح فروعًا في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضًا بكثرة في الجامعات
الغربية في خارج الأقطار الإسلامية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
هنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص هذه القصة، قصة استخلاف أبي بكر الصديق ، وعن صحابة الرسول أجمعين.
لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله، فتاريخ المسلمين بحق بحرٌ لا ساحل له.
ولكي نفهم هذا الحدث الكبير، ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، لا بد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر.
لا بد أن نعرض لطرف بسيط من حياته.
نحن لا نستطيع أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية شخصية هذا الرجل الفذ العملاق، نحن فقط نلقي نظرةً على استحياء لنعرف: ما هذا؟
ما هي مفاتيح الشخصية عنده؟
ما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور؟
ما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وآخرته؟
أبو بكر الصديق شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة.
شخصية
عجيبة، جمعت كل ذلك، وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله حلاوة
المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة
الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره، وليس بنبي، إن هذا لشيء
عجيب.
فشخصية أبي بكر الصديق شخصية عجيبة ما تكررت في التاريخ.
انظر
تقييم علي بن أبي طالب لهذه الشخصية، أخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي
طالب قال: قلت لأبي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ؟
قال: أَبُو بَكْر. قلت: ثُمَّ مَنْ؟ قال: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ
عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قال: مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ. وهذا تواضع من علي بن أبي طالب.
تُرى كيف كانت شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس بعد رسول الله ؟
قال رسول الله في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري : "إِنَّ
مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ،
وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا
بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةَ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتَه"ُ.
فهذه مقامات عالية جدًّا، فأبو بكر الصديق كما في الحديث من أَمَنّ الناس على رسول الله ؛ أي أكثرهم مِنّة وفضلاً.
وهذا رسول الله يتخذ الله خليلاً ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر؛ أي أنه لو اصطفى من البشر خليلاً لكان أبو بكر ، ولكن أخوة الإسلام.
كيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟
وكيف وصل إليها؟
لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق، ولكن أحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، كيف تسهل عليه فعل كل هذا الخير؟
وكيف حافظ عليه؟
ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا أن نقلده فيما فعل، فنصل إلى ما إليه وصل؟
- بتحليل شخصية أبي بكر الصديق وأرضاه، وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة من أهمها خمسة أمور، من هذه الأمور الخمسة تنبثق معظم صفات الصديق وأرضاه:
- حب رسول الله .
- رقة القلب، ولين الجانب.
- السبق والحسم.
- إنكار الذات.
- الثبات.
وهذه الصفات الخمسة هي التي سنتناولها في الجزء الأول من البحث، بإذن الله.
أما في الجزء الثاني، فسنتوقف عند أحداث السقيفة، لكي نتناول بشيء من التفصيل:
- أحداث يوم السقيفة.
- شروط الاستخلاف.
- استخلاف الصديق بين التلميح والتصريح.
- شبهات حول استخلاف الصديق.
ثم ننتهي بعد ذلك إلى دروس من حياة الصديق .
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا..
حبه الصادق لرسول الله :مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية؛ لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟
مَن مِن البشر أسلمناه أذننا، وعقولنا، وأفئدتنا؛ ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟
عجبًا لأمتنا!!
لقد
أعطت ذلك لحفنة من الأشرار، طائفة من المستشرقين، وطائفة من المفتونين بهم
من أبناء المسلمين تسلموا كنز التاريخ؛ لينهبوا أجمل ما فيه وليغيروا
ويبدلوا ويزوروا، فيخرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا، فتقطع حلقة
المجد، وينفصل المسلمين في حاضرهم عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد
تمامًا بتمام.
انتبه الشباب فوجدوا بين أيديهم سجلاً حافلاً من
الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات، صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود،
واحتار الشباب في تاريخهم أيمسكونه على هونٍ أم يدسونه في التراب؟!
فويلٌ، ثم ويل لمن افترى على الله كذبًا؛ ليضل الناس بغير علم.
وويل،
ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية، فصاغوا التاريخ
صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة
لكل أمر من أمور الدين.
وويل، ثم ويل لمن يقدر على التصحيح فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل، ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل.
يقول جابر بن عبد الله: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أُنزل على محمد .
يا الله! لهذه الدرجة؟
من سمع طعنًا في الصحابة، أو في الصالحين من الأمة، ثم لم يَرُد، كان كمن كتم ما أُنْزل على رسول الله ؟
نعم؛ لأنه: كيف وصل إلينا ما نزل على رسول الله ؟
ألم يصل إلينا عن طريق الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين؟
فإذا طُعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة، لم يُقبل ما يأتي عن طريقهم.
و هذا هَدم للدين بالكلية.
إذن تزوير التاريخ أمر خطير مروع، يحتاج إلى وقفات ووقفات.
و لهذا كانت هذه السطور.
ولقد
اخترت لكم حدثًا جليلاً عظيمًا من أحداث التاريخ الإسلامي آثرت أن أفرد له
هذا البحث، حتى ندرسه ونفقهه ونحلله؛ فنتحرك به خطوة، بل خطوات إن شاء
الله إلى الأمام.
هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبو بكر الصديق وأرضاه على المسلمين بعد وفاة رسول .
ولاحظوا
أنني أقول استخلاف أبي بكر الصديق، ولا أقول أني سأحدثكم عن خلافة أبي بكر
الصديق، فهذا يطول ويتشعب، لكني فقط في هذا البحث أتحدث عن قصة الاستخلاف:
كيف اختير أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين؟
وكيف تم؟
وما هي خطواته وما هي تبعاته؟
ماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟
وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟
والحق أن كثيرًا من القراء قد يتعجبون لإفراد هذا الحدث، الذي يعدونه حدثًا قصيرًا بسيطًا في التاريخ ببحث خاص.
فالحدث تم في أقل من يوم واحد، وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرنًا من الزمان، فهل نفرد له بحثًا خاصا؟
ولماذا هذا الحدث بالذات؟
وأجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:
أولاً: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
أجمعين، تعتبر من أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها المسلمين، ويجب أن
يحرصوا على دراستها دراسة وافية، مستفيضة شاملة لكل نقاط حياتهم، فهي فترة
من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة الرسول ، لماذا؟
لأن هذه الفترة تعتبر جزءًا من التشريع الخاص بالمسلمين، وقد يستغرب البعض أن هناك تشريعًا بعد رسول الله ، ولكن الواقع أن كثيرًا من الأمور جدت على حياة المسلمين بعد وفاة الرسول ،
وكانت هذه الأمور تحتاج إلى فقهٍ واجتهاد، فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار
واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها، وسارت الأمة معهم، فكانت تشريعًا
للمسلمين.
حدثت أمورٌ ما كان لها شبيه في حياة الرسول منها هذا الحدث الذي نحن بصدده وهو: اختيار خليفة للمسلمين.
ومنها فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور.
ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.
فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين على الإطلاق، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.
من هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله الذي رواه الترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية قال:
وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ
مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا
الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ
مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى
اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ،
وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا".
وصدقت
يا رسول الله، ونحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، تشعبت
بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟
في أي طريق نسير؟
وأي المناهج نتبع؟
وأي الأساليب نختار؟
انظر إلى نصيحة رسول الله : "وَإِنَّهُ
مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ
بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (بالأضراس) وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ".
عندما تتشعب الطرق عليك بسنة رسول الله .
هذا بالطبع مفهوم، لكن لماذا يضيف :
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ؟
إذا كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة الرسول ، فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا الرسول في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين.
لكن
الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضعت أشياء كثيرة كانت
تحتاج إلى عقول ذكية، وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما
يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل شَرْع للأمة إلى يوم الدين.
خلاصة هذه
النقطة أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، لا
بد أن يعطي له المسلمون اهتمامًا خاصًا, وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في
عهد الخلفاء؛ ولذلك سنتحدث عنها، ثم يليها إن شاء الله الحديث عن الأحداث
الأخرى.
ثانيًا: الذي يهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق ، أننا سنستخلص أحكامًا وأمورًا هامة من هذه الحادثة تفيد جدًّا في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحا:
ما هو معنى الشورى؟
وكيف التصرف عند الاختلاف؟
وما هي طرق عرض وجهات النظر؟
ولماذا يختار رجلٌ دون آخرٍ لإمارة ما؟
وأمورٌ أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.
ثالثًا: إن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله .
ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله أمرُ صعب، والأصعب من ذلك غياب الوحي وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحًا من قصة أم أيمن:
روى مسلم عن أنس قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول : انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا
يُبْكِيكِ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ
اللَّهِ ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لا أَبْكِي أَنِّي لا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيِ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ مَعَهَا.
الصحابة كانوا يعيشون الوحي، وتخيل معي الأمر الغريب، كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله بما يريده الله منهم.
الله يقول لكم كذا.
الله ينهاكم عن كذا.
الله غفر لفلان.
الله يحب فلان.
الله يبشر فلان بالجنة.
الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.
إذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأيًا على رأي، ويعدل المسار ويصحح الوجهة.
وفجأة انقطع الوحي بموت الرسول ، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله ، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا:
أين غضب الله؟
وأين رضاه؟
إذا
اختلفوا عليهم أن يختاروا رأيا دون انتظار التعديل الإلهي، نعم وضع الله
ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع
الوحي، والموقف بعد انقطاع الوحي.
وحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولا بد أن في دراستها عبرًا لا تحصى، وفوائد لا تقدر بثمن.
رابعًا:
وتأتي أهمية حادث الاستخلاف أيضًا في أنه تبعه أحداث جسام في حياة
المسلمين ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق
ليكون خليفة للمسلمين، فالرجل له طابع يختلف عن كثير من الصحابة، سنتعرف
عليه إن شاء الله في هذه السطور، وستشعر كم كان الله رحيمًا بالمؤمنين،
ومسدِدًا لخطاهم لَمّا يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة
الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله .
على سبيل المثال:
حرب الردة، فلولا أبو بكر الصديق لما كانت تلك الحروب الضارية الدامية الواسعة النطاق.
أيضا
الفتوحات الإسلامية العجيبة لدولة فارس والروم، أحداث من العجب أن تتكرر
على هذه الصورة، إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق، قد يكون من السهل
على من تبعه من خلفاء أن يقوموا بالفتوحات من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق،
لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسَنّ سُنّة حسنة تبعه فيها
الآخرون.
حادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه
الأحداث الجسام، فلابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه
الأحداث العجيبة.
خامسًا: ومن أهمية دراسة هذا الحدث الخطير أيضًا أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة.
لم
يتركوا أحدًا، ضربوا كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ
ما يكون، طعنوا في أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وعائشة، وسعد بن
عبادة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، والسيدة فاطمة، بل طعنوا في علي بن أبي
طالب في صورة الثناء عليه، وذموه في صورة المدح، طعنوا في العباس بن المطلب
عم رسول الله .
خلاصة الأمر أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال، وخير القرون.
فإن كان هم كذلك، فأي خير يرتجي مَن جاء مِن بعدهم؟
وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟
وكيف نقبل باجتهادهم؟
فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه ويدمرون الإسلام في أصوله.
هذا
الكلام، ليس تاريخًا قديمًا فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن
غير ذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في
الجامعات المتخصصة سواء في الجامعات المحلية، أو الجامعات الغربية التي
تفتح فروعًا في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضًا بكثرة في الجامعات
الغربية في خارج الأقطار الإسلامية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
هنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص هذه القصة، قصة استخلاف أبي بكر الصديق ، وعن صحابة الرسول أجمعين.
لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله، فتاريخ المسلمين بحق بحرٌ لا ساحل له.
ولكي نفهم هذا الحدث الكبير، ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، لا بد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر.
لا بد أن نعرض لطرف بسيط من حياته.
نحن لا نستطيع أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية شخصية هذا الرجل الفذ العملاق، نحن فقط نلقي نظرةً على استحياء لنعرف: ما هذا؟
ما هي مفاتيح الشخصية عنده؟
ما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور؟
ما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وآخرته؟
أبو بكر الصديق شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة.
شخصية
عجيبة، جمعت كل ذلك، وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله حلاوة
المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة
الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره، وليس بنبي، إن هذا لشيء
عجيب.
فشخصية أبي بكر الصديق شخصية عجيبة ما تكررت في التاريخ.
انظر
تقييم علي بن أبي طالب لهذه الشخصية، أخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي
طالب قال: قلت لأبي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ؟
قال: أَبُو بَكْر. قلت: ثُمَّ مَنْ؟ قال: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ
عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قال: مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ. وهذا تواضع من علي بن أبي طالب.
تُرى كيف كانت شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس بعد رسول الله ؟
قال رسول الله في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري : "إِنَّ
مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ،
وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا
بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةَ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتَه"ُ.
فهذه مقامات عالية جدًّا، فأبو بكر الصديق كما في الحديث من أَمَنّ الناس على رسول الله ؛ أي أكثرهم مِنّة وفضلاً.
وهذا رسول الله يتخذ الله خليلاً ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر؛ أي أنه لو اصطفى من البشر خليلاً لكان أبو بكر ، ولكن أخوة الإسلام.
كيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟
وكيف وصل إليها؟
لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق، ولكن أحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، كيف تسهل عليه فعل كل هذا الخير؟
وكيف حافظ عليه؟
ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا أن نقلده فيما فعل، فنصل إلى ما إليه وصل؟
- بتحليل شخصية أبي بكر الصديق وأرضاه، وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة من أهمها خمسة أمور، من هذه الأمور الخمسة تنبثق معظم صفات الصديق وأرضاه:
- حب رسول الله .
- رقة القلب، ولين الجانب.
- السبق والحسم.
- إنكار الذات.
- الثبات.
وهذه الصفات الخمسة هي التي سنتناولها في الجزء الأول من البحث، بإذن الله.
أما في الجزء الثاني، فسنتوقف عند أحداث السقيفة، لكي نتناول بشيء من التفصيل:
- أحداث يوم السقيفة.
- شروط الاستخلاف.
- استخلاف الصديق بين التلميح والتصريح.
- شبهات حول استخلاف الصديق.
ثم ننتهي بعد ذلك إلى دروس من حياة الصديق .
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا..
أحبه حبًّا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعًا أحبوا رسول الله حبًّا عظيمًا فريدًا، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق .
هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعها.
وحب رسول الله من مكملات الإيمان، فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس قال: قال رسول الله : "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".
وأبو بكر الصديق أشد الناس إيمانًا، فهو إذن أشد الناس حبًّا للرسول ، ففي حديث رسول الله في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "رَأَيْتُ
قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ،
فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ
فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ
أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي
بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ".
هذا الحب المتناهي، له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبًا، ولو تتبعت رحلة الصديق مع رسول الله لرأيت حبًّا قلما تكرر في التاريخ.
وتعالوا نقلب الصفحات في حادث واحد فقط هو حادث الهجرة إلى المدينة المنورة:
- لما جاء رسول الله إلى بيت أبي بكر في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، أول ما قاله أبو بكر قال: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
- ولما أخبره رسول الله بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال رسول الله : "الصُّحْبَةُ".
فماذا كان رد فعل أبي بكر لما علم أنه سيصاحب رسول الله ؟
أترك لكم السيدة عائشة تصور هذا الحدث: قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.
يا الله، يبكي من الفرح للصحبة مع رسول الله ، مع أن هذه الصحبة الخطيرة سيكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده ، ويكون فيها ضياع المال، ويكون فيها ضياع الأهل، ويكون فيها ترك البلد، لكن ما دامت في صحبة رسول الله ، فهذا أمر يبكي من الفرح لأجله.
- لقطة أخرى من لقطات الهجرة:
عند الوصول إلى غار ثور وهي لقطة (بدون تعليق):
ولما
انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان
فيه شر أصابني دونك. فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا، فشق إزاره وسدها به،
وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله : ادخل. فدخل رسول الله ، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجُحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله ، فسقطت دمعة على وجه رسول الله فقال: "مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟" قال: لدغت فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله فذهب ما يجده.
-
لقطة أخرى من لقطات الهجرة: لقطة يحكيها أبو بكر الصديق كما أوردها
البخاري في صحيحه، يقول: ارتحلنا من مكة فأحيينا، أو سرينا ليلتنا ويومنا
حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه؟ فإذا
صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل، فسويته بيدي، ثم فرشت للنبي فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله.
فاضطجع النبي ،
ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق
غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فسألته: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل
من قريش سماه فعرفته، فقلت هل في غنمك من لبن قال: نعم. قلت: فهل أنت حالب
لبنًا؟ قال: نعم.
فأمرته فاعتقل شاه من غنمه، ثم أمرته أن ينفض
ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى
فحلب له كثبة من لبن، ومعي دواة حملتها للنبي يرتوي منها يشرب ويتوضأ. فأتيت النبي ، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ فصببت الماء على اللبن حتى برد أسفله فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قال: "أَلَمْ يِأْنِ الرَّحِيلُ؟"
قلت: بلى. فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن
مالك بن جعشة على فرس، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. فقال: "لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".
- لقطة أخيرة من لقطات الهجرة وليست الأخيرة من لقطات أبي بكر الصديق ، أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب قال: خرج رسول الله إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله ، فسأله، فقال له: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟". قال: نعم، والذي بعثك بالحق.
هل كان هذا الحب من طرف واحد؟
كلا والله، يقول رسول الله في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة : "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِِنْهَا اخْتَلَفَ".
فلأن أبو بكر الصديق أحب رسول الله هذا الحب الذي فاق كل حب، فإن رسول الله قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره.
روى الشيخان عن عمرو بن العاص أن رسول الله بعثه على جيش ذات السلاسل، يقول: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عَائِشَةُ". قلت: من الرجال؟ قال: "أَبُوهَا". قلت: ثم من؟ قال: "عُمَرُ". فعد رجالاً.
سؤال: هل كان يُرْغِمُ أبو بكر الصديق نفسه على هذا الحب؟ هل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟
أبدا
والله، لقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة
التمتع، والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان يذوقها في
قلبه وعقله وكل كيانه.
يقول رسول الله في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس : "ثَلاثٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ
لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ
كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
هذا الحب الفريد لرسول الله قاد إلى أمرين عظيمين يفسران كثيرًا من أعمال الصديق الخالدة في التاريخ:
اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله :هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعها.
وحب رسول الله من مكملات الإيمان، فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس قال: قال رسول الله : "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".
وأبو بكر الصديق أشد الناس إيمانًا، فهو إذن أشد الناس حبًّا للرسول ، ففي حديث رسول الله في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "رَأَيْتُ
قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ،
فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ
فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ
أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي
بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ".
هذا الحب المتناهي، له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبًا، ولو تتبعت رحلة الصديق مع رسول الله لرأيت حبًّا قلما تكرر في التاريخ.
وتعالوا نقلب الصفحات في حادث واحد فقط هو حادث الهجرة إلى المدينة المنورة:
- لما جاء رسول الله إلى بيت أبي بكر في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، أول ما قاله أبو بكر قال: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
- ولما أخبره رسول الله بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال رسول الله : "الصُّحْبَةُ".
فماذا كان رد فعل أبي بكر لما علم أنه سيصاحب رسول الله ؟
أترك لكم السيدة عائشة تصور هذا الحدث: قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.
يا الله، يبكي من الفرح للصحبة مع رسول الله ، مع أن هذه الصحبة الخطيرة سيكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده ، ويكون فيها ضياع المال، ويكون فيها ضياع الأهل، ويكون فيها ترك البلد، لكن ما دامت في صحبة رسول الله ، فهذا أمر يبكي من الفرح لأجله.
- لقطة أخرى من لقطات الهجرة:
عند الوصول إلى غار ثور وهي لقطة (بدون تعليق):
ولما
انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان
فيه شر أصابني دونك. فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا، فشق إزاره وسدها به،
وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله : ادخل. فدخل رسول الله ، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجُحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله ، فسقطت دمعة على وجه رسول الله فقال: "مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟" قال: لدغت فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله فذهب ما يجده.
-
لقطة أخرى من لقطات الهجرة: لقطة يحكيها أبو بكر الصديق كما أوردها
البخاري في صحيحه، يقول: ارتحلنا من مكة فأحيينا، أو سرينا ليلتنا ويومنا
حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه؟ فإذا
صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل، فسويته بيدي، ثم فرشت للنبي فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله.
فاضطجع النبي ،
ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق
غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فسألته: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل
من قريش سماه فعرفته، فقلت هل في غنمك من لبن قال: نعم. قلت: فهل أنت حالب
لبنًا؟ قال: نعم.
فأمرته فاعتقل شاه من غنمه، ثم أمرته أن ينفض
ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى
فحلب له كثبة من لبن، ومعي دواة حملتها للنبي يرتوي منها يشرب ويتوضأ. فأتيت النبي ، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ فصببت الماء على اللبن حتى برد أسفله فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قال: "أَلَمْ يِأْنِ الرَّحِيلُ؟"
قلت: بلى. فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن
مالك بن جعشة على فرس، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. فقال: "لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".
- لقطة أخيرة من لقطات الهجرة وليست الأخيرة من لقطات أبي بكر الصديق ، أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب قال: خرج رسول الله إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله ، فسأله، فقال له: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟". قال: نعم، والذي بعثك بالحق.
هل كان هذا الحب من طرف واحد؟
كلا والله، يقول رسول الله في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة : "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِِنْهَا اخْتَلَفَ".
فلأن أبو بكر الصديق أحب رسول الله هذا الحب الذي فاق كل حب، فإن رسول الله قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره.
روى الشيخان عن عمرو بن العاص أن رسول الله بعثه على جيش ذات السلاسل، يقول: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عَائِشَةُ". قلت: من الرجال؟ قال: "أَبُوهَا". قلت: ثم من؟ قال: "عُمَرُ". فعد رجالاً.
سؤال: هل كان يُرْغِمُ أبو بكر الصديق نفسه على هذا الحب؟ هل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟
أبدا
والله، لقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة
التمتع، والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان يذوقها في
قلبه وعقله وكل كيانه.
يقول رسول الله في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس : "ثَلاثٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ
لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ
كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
هذا الحب الفريد لرسول الله قاد إلى أمرين عظيمين يفسران كثيرًا من أعمال الصديق الخالدة في التاريخ:
اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله دون جدال أو نقاشٍ أو تنطع. ما نهى عنه ينتهي، وما أمر به يأتي منه ما استطاع، ونجد مصداق ذلك في أحداث كثيرة منها:
-
عُرِض الإسلام على أبي بكر، وأن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن
يترك دين الآباء والأجداد، وأن يخالف الناس أجمعين، ويتبع رجلاً واحدًا،
أمر عجيب لا بد أن يلتفت إليه.
يقول رسول الله : "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتم (كف بعد المضي فيه) عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ". يقين كامل أن هذا الرجل لا يكذب.
- حادث الإسراء:-
عُرِض الإسلام على أبي بكر، وأن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن
يترك دين الآباء والأجداد، وأن يخالف الناس أجمعين، ويتبع رجلاً واحدًا،
أمر عجيب لا بد أن يلتفت إليه.
يقول رسول الله : "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتم (كف بعد المضي فيه) عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ". يقين كامل أن هذا الرجل لا يكذب.
أخرج
الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر
فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. وهذا
أمر عجيب جدًّا، وَضَعْ نفسك مكان أبي بكر الصديق، فالمسافة بين مكة والقدس
أكثر من مائة يوم للذهاب فقط، فكيف يذهب، ويعود في ليلة؟! قال: أوَقال
ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: لقد صدق. دون أن يذهب إلى رسول الله ليستوثق منه،
ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، قال: إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء
غدوة وروحة.
ويقال إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبا بكر الصديق، والثابت أن رسول الله هو الذي سمى أبا بكر بالصديق.
روى البخاري عن أنس أن النبي صعد أحد، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ".
بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله أن الذي سماه بذلك هو الله ،
قال النزال بن سبرة: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن أبي بكر.
قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد ، وكان خليفة رسول الله ، رضيه لديننا، فرضيناه لدنيانا. ويقول الله : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [الزُّمر: 33]. قال علي بن أبي طالب : الذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدق به هو أبو بكر الصديق .
كما أننا نجد أن حياة الصديق ما هي إلا تصديق مستمرٌ متصلٌ لرسول الله .
- موقفه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، فالرسول
كان قد رأى في منامه أنه يدخل المسجد الحرام، ويعتمر الناس، ثم لم يحدث
هذا في ذلك العام، ثم عقدت معاهدة بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين،
ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل بن سهيل بن عمرو مباشرة بعد إتمام
المعاهدة، فرده رسول الله إلى المشركين لما جاءه مسلمًا في مشهدٍ مأساوي مؤثر.
كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيرًا في نفسية الصحابة بِهَمٍّ عظيم، وغَمٍّ لا يوصف، وكان من أشدهم غمًّا وهمًّا عمر بن الخطاب ، انظر ماذا فعل عمر على عظم قدره، وفقهه، وماذا فعل الصديق رضي الله عنهما. أما عمر بن الخطاب فقد ذهب إلى رسول الله والغيظ يملأ قلبه فقال: أتيت النبي فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله حقًّا؟ وهو لا يشك في ذلك قطعًا، ولكنه يبدي استغرابه مما حدث. قال: "بَلَى". قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: "بَلَى". قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: "بَلَى". قلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
وعمر هنا ليس قليل الإيمان، بل بالعكس يريد ما هو أشق على النفس، ولا يسأل التخفيف أو التغاضي، والرسول كان من عادته أن يوضح، ويبين لكن هنا الرسول يربي على الاستسلام دون معرفة الأسباب، ودون معرفة الحكمة، ما دام الله قد أمر.
قال: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَلَسْتَ أَعْصِيهِ". قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟". قلت: لا. قال: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.
والرسول صابر جدًّا في حديث عمر؛ لأنه يعلم ما به من الغم ويعذره، وهذه درجة عالية جدًّا من درجات الإيمان وهي غليان القلب حمية للدين.
لكن
تعال من الجانب الآخر وانظر إلى أبي بكر. قلت: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا
أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا
على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال:
بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله،
وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى حق.
هنا يغضب الرجل الرقيق؛ لأنه شعر أنه في هذه التلميحات إشارة، ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله . قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك إنك تأتيه العام؟ قلت: لا.
ولعلنا نلاحظ التشابه الشديد بين ردود الصديق عنه، وردود رسول الله . قال: فإنك آتيه ومطوف به.
يقين تام، ليس فيه ذرة شك من كلام رسول الله، هذا هو الصديق ، فكان عمر يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به".
- هذا اليقين أيضًا يفسر لنا موقفًا عجيبًا من مواقف الصديق
وهو موقف إعلان الحرب على الفرس، فور الانتهاء من حرب الردة، فهذا من أعجب
مواقف التاريخ على الإطلاق، ولنحسبها بحساباتنا المادية البشرية:
- فالدولة دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط.
- والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية، فهي مجموعة من القبائل جمعها رسول الله منذ أعوام قلائل.
- والدولة خارجة من حرب أهلية طاحنة، هي حروب الردة الضارية، والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب باستثناء ثلاث مدن وقرية.
- والفرس دولة تقتسم العالم مع دولة الروم، أي أنها إحدى الدول العظمى في العالم.
- وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية، وجيوش الفرس تجاوز الملايين.
-
والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز العشرة آلاف وصلوا إلى
ثمانية عشر ألفًا عند اكتمال العدة، وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من
مدن الفرس.
كل هذا وغيره، ومع ذلك يأخذ هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.
وحتى تفهم هذا القرار ارجع وادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به الصديق :
أولاً: رسول الله
قد بَشّر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم، والأحاديث أكثر من أن
تذكر في هذا المجال، ولكن على سبيل المثال ما جاء في صحيح مسلم عَنْ
ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّ
اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا،
وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا".
ثانيًا: ثم لقد سمع بشارة من رسول الله أكثر تخصيصًا، فإن رسول الله قال لمشركي قريش، وكان فيهم أبو جهل: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ، وَلانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ". فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. قال: "تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفقوا بأيديهم وقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا وحدًا؟ إن أمرك لعجب.
وأبو بكر قد قال كلمة لا إله إلا الله وصدق بها وعمل بها وجيش أبي بكر كذلك، فلماذا لا ينصر؟ بل العجب كل العجب ألا ينصر.
ثالثًا:
بل هو قد سمع بشارةً أكثر تخصيصًا أيضًا من تلك التي سبقت، فقد كان مع
المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة، فقام
إليها رسول الله وضربها، وكان مما قال: "اللّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الآنَ".
رابعًا:
بل هو رأى بعينه وسمع بأذنه هو دون بقية الصحابة ما حدث في طريق الهجرة من
مكة إلى المدينة من أمر سراقة بن مالك، ورأى أقدام فرسه تسوخ في الرمال،
ثم رسول الله يقول لسراقة: "كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟"
خامسًا: كما أنه حضر مباحثات رسول الله
مع بني شيبان أيام مكة، ولما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية؛ لأنهم
اشترطوا شرطًا أن لا ينصروه إذا حارب الفرس، فإنهم ليست لهم طاقة بحرب
الفرس، فماذا قال لهم رسول الله قال: "أَرَأَيْتُمْ
إِنْ لَنْ تَلْبَثُوا إِلا قَلِيلا حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ
أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ
اللَّهَ وَتُقَدِسُونَهُ؟", فقالوا: اللهم لك هذا.
سادسًا: بل أكثر من ذلك، فقد حدث من أبي بكر الصديق ما يذهب العجب عندك حينما تعلمه، فإنه في أوائل الفترة المكية قد نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها:
{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ} [الروم: 1, 4].
وكان
هذا إخبار بما حدث من هزيمة الروم وبما سيحدث من انتصارهم لاحقًا على
الفرس. ذهب أبو بكر يذكر ذلك للمشركين يغيظهم به، وقد كان المسلمون يفرحون
لنصر الروم؛ لأنهم أهل كتاب، بين
الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر
فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. وهذا
أمر عجيب جدًّا، وَضَعْ نفسك مكان أبي بكر الصديق، فالمسافة بين مكة والقدس
أكثر من مائة يوم للذهاب فقط، فكيف يذهب، ويعود في ليلة؟! قال: أوَقال
ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: لقد صدق. دون أن يذهب إلى رسول الله ليستوثق منه،
ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، قال: إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء
غدوة وروحة.
ويقال إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبا بكر الصديق، والثابت أن رسول الله هو الذي سمى أبا بكر بالصديق.
روى البخاري عن أنس أن النبي صعد أحد، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ".
بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله أن الذي سماه بذلك هو الله ،
قال النزال بن سبرة: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن أبي بكر.
قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد ، وكان خليفة رسول الله ، رضيه لديننا، فرضيناه لدنيانا. ويقول الله : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [الزُّمر: 33]. قال علي بن أبي طالب : الذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدق به هو أبو بكر الصديق .
كما أننا نجد أن حياة الصديق ما هي إلا تصديق مستمرٌ متصلٌ لرسول الله .
- موقفه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، فالرسول
كان قد رأى في منامه أنه يدخل المسجد الحرام، ويعتمر الناس، ثم لم يحدث
هذا في ذلك العام، ثم عقدت معاهدة بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين،
ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل بن سهيل بن عمرو مباشرة بعد إتمام
المعاهدة، فرده رسول الله إلى المشركين لما جاءه مسلمًا في مشهدٍ مأساوي مؤثر.
كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيرًا في نفسية الصحابة بِهَمٍّ عظيم، وغَمٍّ لا يوصف، وكان من أشدهم غمًّا وهمًّا عمر بن الخطاب ، انظر ماذا فعل عمر على عظم قدره، وفقهه، وماذا فعل الصديق رضي الله عنهما. أما عمر بن الخطاب فقد ذهب إلى رسول الله والغيظ يملأ قلبه فقال: أتيت النبي فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله حقًّا؟ وهو لا يشك في ذلك قطعًا، ولكنه يبدي استغرابه مما حدث. قال: "بَلَى". قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: "بَلَى". قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: "بَلَى". قلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
وعمر هنا ليس قليل الإيمان، بل بالعكس يريد ما هو أشق على النفس، ولا يسأل التخفيف أو التغاضي، والرسول كان من عادته أن يوضح، ويبين لكن هنا الرسول يربي على الاستسلام دون معرفة الأسباب، ودون معرفة الحكمة، ما دام الله قد أمر.
قال: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَلَسْتَ أَعْصِيهِ". قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟". قلت: لا. قال: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.
والرسول صابر جدًّا في حديث عمر؛ لأنه يعلم ما به من الغم ويعذره، وهذه درجة عالية جدًّا من درجات الإيمان وهي غليان القلب حمية للدين.
لكن
تعال من الجانب الآخر وانظر إلى أبي بكر. قلت: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا
أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا
على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال:
بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله،
وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى حق.
هنا يغضب الرجل الرقيق؛ لأنه شعر أنه في هذه التلميحات إشارة، ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله . قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك إنك تأتيه العام؟ قلت: لا.
ولعلنا نلاحظ التشابه الشديد بين ردود الصديق عنه، وردود رسول الله . قال: فإنك آتيه ومطوف به.
يقين تام، ليس فيه ذرة شك من كلام رسول الله، هذا هو الصديق ، فكان عمر يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به".
- هذا اليقين أيضًا يفسر لنا موقفًا عجيبًا من مواقف الصديق
وهو موقف إعلان الحرب على الفرس، فور الانتهاء من حرب الردة، فهذا من أعجب
مواقف التاريخ على الإطلاق، ولنحسبها بحساباتنا المادية البشرية:
- فالدولة دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط.
- والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية، فهي مجموعة من القبائل جمعها رسول الله منذ أعوام قلائل.
- والدولة خارجة من حرب أهلية طاحنة، هي حروب الردة الضارية، والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب باستثناء ثلاث مدن وقرية.
- والفرس دولة تقتسم العالم مع دولة الروم، أي أنها إحدى الدول العظمى في العالم.
- وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية، وجيوش الفرس تجاوز الملايين.
-
والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز العشرة آلاف وصلوا إلى
ثمانية عشر ألفًا عند اكتمال العدة، وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من
مدن الفرس.
كل هذا وغيره، ومع ذلك يأخذ هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.
وحتى تفهم هذا القرار ارجع وادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به الصديق :
أولاً: رسول الله
قد بَشّر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم، والأحاديث أكثر من أن
تذكر في هذا المجال، ولكن على سبيل المثال ما جاء في صحيح مسلم عَنْ
ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّ
اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا،
وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا".
ثانيًا: ثم لقد سمع بشارة من رسول الله أكثر تخصيصًا، فإن رسول الله قال لمشركي قريش، وكان فيهم أبو جهل: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ، وَلانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ". فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. قال: "تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفقوا بأيديهم وقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا وحدًا؟ إن أمرك لعجب.
وأبو بكر قد قال كلمة لا إله إلا الله وصدق بها وعمل بها وجيش أبي بكر كذلك، فلماذا لا ينصر؟ بل العجب كل العجب ألا ينصر.
ثالثًا:
بل هو قد سمع بشارةً أكثر تخصيصًا أيضًا من تلك التي سبقت، فقد كان مع
المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة، فقام
إليها رسول الله وضربها، وكان مما قال: "اللّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الآنَ".
رابعًا:
بل هو رأى بعينه وسمع بأذنه هو دون بقية الصحابة ما حدث في طريق الهجرة من
مكة إلى المدينة من أمر سراقة بن مالك، ورأى أقدام فرسه تسوخ في الرمال،
ثم رسول الله يقول لسراقة: "كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟"
خامسًا: كما أنه حضر مباحثات رسول الله
مع بني شيبان أيام مكة، ولما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية؛ لأنهم
اشترطوا شرطًا أن لا ينصروه إذا حارب الفرس، فإنهم ليست لهم طاقة بحرب
الفرس، فماذا قال لهم رسول الله قال: "أَرَأَيْتُمْ
إِنْ لَنْ تَلْبَثُوا إِلا قَلِيلا حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ
أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ
اللَّهَ وَتُقَدِسُونَهُ؟", فقالوا: اللهم لك هذا.
سادسًا: بل أكثر من ذلك، فقد حدث من أبي بكر الصديق ما يذهب العجب عندك حينما تعلمه، فإنه في أوائل الفترة المكية قد نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها:
{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ} [الروم: 1, 4].
وكان
هذا إخبار بما حدث من هزيمة الروم وبما سيحدث من انتصارهم لاحقًا على
الفرس. ذهب أبو بكر يذكر ذلك للمشركين يغيظهم به، وقد كان المسلمون يفرحون
لنصر الروم؛ لأنهم أهل كتاب، بين
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
أبو بكر الصديق ونعمة السبق
السبق سمة واضحة جدًّا في حياة الصديق
وأرضاه، والشيطان كثيرًا ما يمنع الإنسان من عمل الخير عن طريق التسويف،
وبالذات مع أهل الإيمان والتقوى، يقول له افعل الخير ولكن بعد يوم أو يومين
أو شهر أو شهرين، ولا يقول له لا تفعل الخير، فالشيطان أذكى من ذلك،
وعندما يؤجل الإنسان العمل، ولو للحظات قليلة يكون معرضًا بشدة لترك العمل،
إما أن ينسى العمل، وإما أن تَجِدّ له ظروف تمنع من العمل من شغل، أو مرض،
أو تتغير الحماسة في القلب، بل إن الإنسان قد يموت.
أبو بكر الصديق الرجل العاقل الحكيم كان يفهم لعبة الشيطان فهمًا جيدًا، كان يفهم لعبة التسويف، فما سمح للشيطان أبدًا أن يلعبها معه، كان وأرضاه أستاذًا في السبق ونبراسًا في الحسم، تشعر أنه يتحرك في حياته وقد وضع الآية الكريمة: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]
نصب عينيه، فتجده في سباق دائم مع الزمن، وكأن اللحظة القادمة هي لحظة
الموت، فلا بد أن يكون مستعدًا لها، أو هي لحظة الفتنة، فلا بد أن يكون
ثابتًا، ومن المؤكد أنه سمع حديث رسول الله الذي رواه الإمام مسلم عن أبي
هريرة والذي يقول: "بادروا بالأعمال الصالحة, فستكون
فتنًا كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا ويمسى مؤمنًا
ويصبح كافرًا, يبيع دينه بعرض من الدنيا".
من يرى حياة الصديق يعلم أنه كان دائمًا يبادر بالأعمال الصالحة؛ اتقاء الفتن التي تظهر فجأة وعلى غير موعد سابق.
وإلى بعض الأمثلة التاريخية، على سبق الصديق .
سبقه إلى الإسلام :وأرضاه، والشيطان كثيرًا ما يمنع الإنسان من عمل الخير عن طريق التسويف،
وبالذات مع أهل الإيمان والتقوى، يقول له افعل الخير ولكن بعد يوم أو يومين
أو شهر أو شهرين، ولا يقول له لا تفعل الخير، فالشيطان أذكى من ذلك،
وعندما يؤجل الإنسان العمل، ولو للحظات قليلة يكون معرضًا بشدة لترك العمل،
إما أن ينسى العمل، وإما أن تَجِدّ له ظروف تمنع من العمل من شغل، أو مرض،
أو تتغير الحماسة في القلب، بل إن الإنسان قد يموت.
أبو بكر الصديق الرجل العاقل الحكيم كان يفهم لعبة الشيطان فهمًا جيدًا، كان يفهم لعبة التسويف، فما سمح للشيطان أبدًا أن يلعبها معه، كان وأرضاه أستاذًا في السبق ونبراسًا في الحسم، تشعر أنه يتحرك في حياته وقد وضع الآية الكريمة: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]
نصب عينيه، فتجده في سباق دائم مع الزمن، وكأن اللحظة القادمة هي لحظة
الموت، فلا بد أن يكون مستعدًا لها، أو هي لحظة الفتنة، فلا بد أن يكون
ثابتًا، ومن المؤكد أنه سمع حديث رسول الله الذي رواه الإمام مسلم عن أبي
هريرة والذي يقول: "بادروا بالأعمال الصالحة, فستكون
فتنًا كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا ويمسى مؤمنًا
ويصبح كافرًا, يبيع دينه بعرض من الدنيا".
من يرى حياة الصديق يعلم أنه كان دائمًا يبادر بالأعمال الصالحة؛ اتقاء الفتن التي تظهر فجأة وعلى غير موعد سابق.
وإلى بعض الأمثلة التاريخية، على سبق الصديق .
أول ما يلفت الأنظار إلى أبي بكر الصديق
سبقه إلى الإسلام، فمن المعروف أنه أول الرجال إسلامًا، ما تردد، وما نظر،
وما قال آخذ يومًا أو يومين للتفكير، بل أسرع إليه إسراعًا، وهو أمر لافت
للنظر جدًا، فهو لن يغير شكله، أو بيئته، أو بلده، بل سيغير إيمانه،
وعقيدته التي عاش عليها طيلة 38 سنة، أحيانًا بعض الرجال يعتقدون أنه من
الحكمة التروي جدًا في الأمر، وعدم التسرع، وأخذ وقت طويل في التفكير قبل
الإقدام على خطوة من خطوات الحياة، وبالذات لو كانت خطوة مصيرية، وهذا قد
يكون صوابًا في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحًا
جليًا مضيئًا كالشمس في كبد السماء ساعة الظهر، يصبح التروي حماقة، وتصبح
الأناة كسلًا، وتصبح كثرة التفكير مذمة، هذا مثلًا ما حدث مع قوم نوح، فقوم
نوح كانوا يعيبون على الذين آمنوا مع نوح أنهم تسرعوا في الأمر ولم يتفكروا، قالوا: {فَقَالَ
المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا
مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ
نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
فبادي
الرأي معناها أولئك يبدون آرائهم لأول وهلة دون تفكير وتمحيص. وسبحان الله
إنه لمن البلاهة أن ترى الشمس ساطعة، فتسأل عنها فتقول دعوني أفكر أولًا
وأتروى: هل هي ساطعة أم لا؟
أو ترى نبعًا صافيًا سلسبيلًا في الصحراء، وأنت على مشارف الهلكة من العطش فتأخذ يومًا أو يومين تفكر هل أشرب أم لا؟!
كان أبو بكر الصديق
وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة، فلماذا التردد والانتظار؟! عُرض عليه
الإسلام غضًّا طريًّا واضحًا، فأنار الله قلبه بنور الهداية، وأدرك الحق من
أول وهلة فلماذا الانتظار؟
روى البخاري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟" قال ذلك لما حدث خلاف بين أبي بكر الصديق وبين أحد الصحابة أجمعين، ثم أكمل مسوغات أن يتركوا له صاحبه ، قال: "إِنِّي
قُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.
فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ".
إذن هي فضيلة ولا شك أن أسرع إلى الإسلام هذا الإسراع، وسبحان الله مرت الأيام، وَصَدّق رسول الله
أولئك الذين كذبوه من قبل، لكن كان أبو بكر هو الفائز بأجر السبق، من
الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم من آمن بعد سنوات، ومنهم من
انتظر حتى تم الفتح ثم آمن، نعم الجميع آمن، والجميع صدق، لكن الصديق فاز
بها {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10- 12]
الأيام التي تمر لا تعود أبدًا إلى يوم القيامة، ولا شك أن أولئك الذين
تأخر إسلامهم أيامًا وشهورًا وسنوات، كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام
ضاعت في ظلمات الكفر، لكن الحسرة ما أعادت الأيام، ولا شك أن الذي سارع إلى
الخيرات استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان، وفي النهاية الأيام
مرت على هذا وذاك، وأنا لا أذكر هذا الكلام للتاريخ، نحن في واقع حياتنا
كثيرًا ما نتردد في أعمال الخير فنؤجلها يومًا، ويومين، وشهرًا أو شهرين،
ثم نفعل الخير، أو لا نفعله.
{لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ
وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فالأعمال لها أجران، أجر العمل نفسه، وأجر المبادرة إليه، والسبق في
تنفيذه، وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل نفسه؛ لأنها تكون بمثابة
السُّنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدونك، فيكون لك أجرها وأجر من عمل بها
إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
روى الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله قال ; قال رسول الله : "مَنْ
سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ
عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا".
لكن قضية إسلام أبي بكر الصديق بهذه
السرعة قضية تحتاج إلى وقفة، بل وقفات، هذا قرار غير عادي، قرار مهول، بل
أكثر من مهول، قرار يتبعه ترك الدين إلى دين غيره، قرار يتبعه هلكة الأموال
والأولاد والأشراف، قرار يتبعه قتال الأبيض والأسود والأحمر من الناس،
قرار يتبعه تكفير الآباء والآجداد، قرار يتبعه تعب ونصب ووصب، بل جهاد حتى
الموت، هذا قرار يغير المألوف الذي ألفه الناس سنوات وسنوات، وتغيير
المألوف يحتاج إلى رجال من طراز خاص، وقد كان الصديق ذلك الرجل.
ولماذا اختار رسول الله
الصديق من بين كل الناس، لكي يسر له بأمر الدعوة دون غيره؟ وقد كان من
المنطقي أن يدعو الرسول أحد أقاربه قبل الصديق، وخاصة في هذه البيئة
القبيلة، فلماذا لم يذهب رسول الله مثلاً لأبي لهب، أو العباس، أو حمزة، أو غيرهم من عائلته، وأهل بيته؟
وذلك ولا شك قد كان لأن أبا بكر الصديق كان أقرب إلى رسول الله من أقاربه، كما أن رسول الله
يرى في الصديق أمورًا، ولا شك، جعلته يتيقن أنه سيوافقه، بل يعينه على أمر
هذه الدعوة، ويكون له شـأن عظيم لا يغفل في هذا الدين، فمــا الذي رآه
رسول الله في الصديق ؟
كيف أخذ الصديق هذا القرار الجريء المُغيّر؟سبقه إلى الإسلام، فمن المعروف أنه أول الرجال إسلامًا، ما تردد، وما نظر،
وما قال آخذ يومًا أو يومين للتفكير، بل أسرع إليه إسراعًا، وهو أمر لافت
للنظر جدًا، فهو لن يغير شكله، أو بيئته، أو بلده، بل سيغير إيمانه،
وعقيدته التي عاش عليها طيلة 38 سنة، أحيانًا بعض الرجال يعتقدون أنه من
الحكمة التروي جدًا في الأمر، وعدم التسرع، وأخذ وقت طويل في التفكير قبل
الإقدام على خطوة من خطوات الحياة، وبالذات لو كانت خطوة مصيرية، وهذا قد
يكون صوابًا في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحًا
جليًا مضيئًا كالشمس في كبد السماء ساعة الظهر، يصبح التروي حماقة، وتصبح
الأناة كسلًا، وتصبح كثرة التفكير مذمة، هذا مثلًا ما حدث مع قوم نوح، فقوم
نوح كانوا يعيبون على الذين آمنوا مع نوح أنهم تسرعوا في الأمر ولم يتفكروا، قالوا: {فَقَالَ
المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا
مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ
نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
فبادي
الرأي معناها أولئك يبدون آرائهم لأول وهلة دون تفكير وتمحيص. وسبحان الله
إنه لمن البلاهة أن ترى الشمس ساطعة، فتسأل عنها فتقول دعوني أفكر أولًا
وأتروى: هل هي ساطعة أم لا؟
أو ترى نبعًا صافيًا سلسبيلًا في الصحراء، وأنت على مشارف الهلكة من العطش فتأخذ يومًا أو يومين تفكر هل أشرب أم لا؟!
كان أبو بكر الصديق
وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة، فلماذا التردد والانتظار؟! عُرض عليه
الإسلام غضًّا طريًّا واضحًا، فأنار الله قلبه بنور الهداية، وأدرك الحق من
أول وهلة فلماذا الانتظار؟
روى البخاري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟" قال ذلك لما حدث خلاف بين أبي بكر الصديق وبين أحد الصحابة أجمعين، ثم أكمل مسوغات أن يتركوا له صاحبه ، قال: "إِنِّي
قُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.
فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ".
إذن هي فضيلة ولا شك أن أسرع إلى الإسلام هذا الإسراع، وسبحان الله مرت الأيام، وَصَدّق رسول الله
أولئك الذين كذبوه من قبل، لكن كان أبو بكر هو الفائز بأجر السبق، من
الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم من آمن بعد سنوات، ومنهم من
انتظر حتى تم الفتح ثم آمن، نعم الجميع آمن، والجميع صدق، لكن الصديق فاز
بها {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10- 12]
الأيام التي تمر لا تعود أبدًا إلى يوم القيامة، ولا شك أن أولئك الذين
تأخر إسلامهم أيامًا وشهورًا وسنوات، كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام
ضاعت في ظلمات الكفر، لكن الحسرة ما أعادت الأيام، ولا شك أن الذي سارع إلى
الخيرات استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان، وفي النهاية الأيام
مرت على هذا وذاك، وأنا لا أذكر هذا الكلام للتاريخ، نحن في واقع حياتنا
كثيرًا ما نتردد في أعمال الخير فنؤجلها يومًا، ويومين، وشهرًا أو شهرين،
ثم نفعل الخير، أو لا نفعله.
{لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ
وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فالأعمال لها أجران، أجر العمل نفسه، وأجر المبادرة إليه، والسبق في
تنفيذه، وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل نفسه؛ لأنها تكون بمثابة
السُّنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدونك، فيكون لك أجرها وأجر من عمل بها
إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
روى الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله قال ; قال رسول الله : "مَنْ
سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ
عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا".
لكن قضية إسلام أبي بكر الصديق بهذه
السرعة قضية تحتاج إلى وقفة، بل وقفات، هذا قرار غير عادي، قرار مهول، بل
أكثر من مهول، قرار يتبعه ترك الدين إلى دين غيره، قرار يتبعه هلكة الأموال
والأولاد والأشراف، قرار يتبعه قتال الأبيض والأسود والأحمر من الناس،
قرار يتبعه تكفير الآباء والآجداد، قرار يتبعه تعب ونصب ووصب، بل جهاد حتى
الموت، هذا قرار يغير المألوف الذي ألفه الناس سنوات وسنوات، وتغيير
المألوف يحتاج إلى رجال من طراز خاص، وقد كان الصديق ذلك الرجل.
ولماذا اختار رسول الله
الصديق من بين كل الناس، لكي يسر له بأمر الدعوة دون غيره؟ وقد كان من
المنطقي أن يدعو الرسول أحد أقاربه قبل الصديق، وخاصة في هذه البيئة
القبيلة، فلماذا لم يذهب رسول الله مثلاً لأبي لهب، أو العباس، أو حمزة، أو غيرهم من عائلته، وأهل بيته؟
وذلك ولا شك قد كان لأن أبا بكر الصديق كان أقرب إلى رسول الله من أقاربه، كما أن رسول الله
يرى في الصديق أمورًا، ولا شك، جعلته يتيقن أنه سيوافقه، بل يعينه على أمر
هذه الدعوة، ويكون له شـأن عظيم لا يغفل في هذا الدين، فمــا الذي رآه
رسول الله في الصديق ؟
أو قل: لماذا لم يأخذ الآخرون القرار الذي أخذه الصديق ببساطة وسهولة؟ ما الذي يمنع الناس أن يؤمنوا فيتخلفوا عن ركب الصديق وأمثاله؟
وهنا
نقف وقفة ونحلل، ولأننا لا نسرد التاريخ لمجرد العلم به، بل لكي نتحرك به
خطوات إلى الأمام، فلنلاحظ الصفات التي كانت في الصديق
وجعلته يسبق إلى الإسلام، فإن كانت موجودة عندنا، فالحمد لله، وإلا
فلنستكملها، لأنه لا يمكن سبق بدونها، كذلك تساعدنا هذه الصفات في الحركة
في دعوة الناس إلى الله، فمن كانت فيه مثل هذه الصفات الخيرة، فلنكن بادئين
به، فإن للداعية أولويات لا بد أن تحترم، وقواعد لا بد أن تتبع. وقد حاولت
أن ألم بمجمل تلك الصفات فحصرتها في عشرين صفة وهذه الصفات يكون بعضها
موجود بعض الناس وبعضها الآخر في آخرين، وقد تجتمع في رجل واحد مثل الصديق .
أولاً :وهنا
نقف وقفة ونحلل، ولأننا لا نسرد التاريخ لمجرد العلم به، بل لكي نتحرك به
خطوات إلى الأمام، فلنلاحظ الصفات التي كانت في الصديق
وجعلته يسبق إلى الإسلام، فإن كانت موجودة عندنا، فالحمد لله، وإلا
فلنستكملها، لأنه لا يمكن سبق بدونها، كذلك تساعدنا هذه الصفات في الحركة
في دعوة الناس إلى الله، فمن كانت فيه مثل هذه الصفات الخيرة، فلنكن بادئين
به، فإن للداعية أولويات لا بد أن تحترم، وقواعد لا بد أن تتبع. وقد حاولت
أن ألم بمجمل تلك الصفات فحصرتها في عشرين صفة وهذه الصفات يكون بعضها
موجود بعض الناس وبعضها الآخر في آخرين، وقد تجتمع في رجل واحد مثل الصديق .
قبل كل شيء فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
فلما يختار الله للنبوة أفرادًا بعينهم يصطفيهم على بقية البشر، فإن الله
بعد ذلك يصطفي عبادًا من عباده يعينون رسل الله في قضاء مهمتهم، وفي توصيل
دعوتهم، وقد كان الصديق ولا شك في ذلك من هؤلاء المصطفين. بل إن الله يصطفي
من البشر أناسًا على فترات متعددة بعيدًا عن زمان الرسل، يجددون لهذه
الأمة أمر دينها، إذًا أول أمر هو اصطفاء الله للصديق لينال هذه المكانة
الراقية وذلك لحكمة يعلمها I، وكما صنع الأنبياء على عين الله ، فكذلك الصديق قد صنع على عين الله.
وهنا
قد يقول قائل: أن هذا الأمر ليس بيده، أي اصطفاء الله له، ولكنه لا بد أن
يعلم أن هذا الاصطفاء ليس عشوائيًّا، حاشا لله، ولكن الله بسابق علمه يعلم
أن في هذا العبد صلاحًا وإيمانًا، فيقربه، ويهديه، نـسـأل الله أن نكون كذلك.
ثانيًا :فلما يختار الله للنبوة أفرادًا بعينهم يصطفيهم على بقية البشر، فإن الله
بعد ذلك يصطفي عبادًا من عباده يعينون رسل الله في قضاء مهمتهم، وفي توصيل
دعوتهم، وقد كان الصديق ولا شك في ذلك من هؤلاء المصطفين. بل إن الله يصطفي
من البشر أناسًا على فترات متعددة بعيدًا عن زمان الرسل، يجددون لهذه
الأمة أمر دينها، إذًا أول أمر هو اصطفاء الله للصديق لينال هذه المكانة
الراقية وذلك لحكمة يعلمها I، وكما صنع الأنبياء على عين الله ، فكذلك الصديق قد صنع على عين الله.
وهنا
قد يقول قائل: أن هذا الأمر ليس بيده، أي اصطفاء الله له، ولكنه لا بد أن
يعلم أن هذا الاصطفاء ليس عشوائيًّا، حاشا لله، ولكن الله بسابق علمه يعلم
أن في هذا العبد صلاحًا وإيمانًا، فيقربه، ويهديه، نـسـأل الله أن نكون كذلك.
قد يصد الناس عن سماع الحق كراهيتهم لقائله، والحق أن أهل مكة جميعًا ما كانوا يكرهون محمدًا قبل بعثته، بل كان جلهم أو كلهم يحبه ، فهو الصادق الأمين الشريف العفيف، لكن أتراهم أحبوه مثلما أحبه الصديق ؟
أشك كثيرًا في ذلك، فإني لا أعتقد أن أحدًا أحب أحدًا مثلما أحب الصديق محمدًا .
محمد وأبو بكر الصديق كانا صديقين حميمين حتى قبل البعثة، وكما ذكرنا من قبل، حديث الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَناكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ".
فقد تعارفت روحا النبي والصديق ،
وأول درجات الدعوة الصحيحة أن يحب المدعو الداعية، وأن يحب الداعية
المدعو، هذا الحب المتبادل يفتح القلب، وينور العقل، ولا شك أنه درس لا
ينسى لكل الدعاة، إذا أردت أن يستجيب الناس لدعوتك فلا بد أولًا من حب
متبادل، أَحِبّ الناس وكن أهلًا لحبهم.
ثالثًا :أشك كثيرًا في ذلك، فإني لا أعتقد أن أحدًا أحب أحدًا مثلما أحب الصديق محمدًا .
محمد وأبو بكر الصديق كانا صديقين حميمين حتى قبل البعثة، وكما ذكرنا من قبل، حديث الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَناكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ".
فقد تعارفت روحا النبي والصديق ،
وأول درجات الدعوة الصحيحة أن يحب المدعو الداعية، وأن يحب الداعية
المدعو، هذا الحب المتبادل يفتح القلب، وينور العقل، ولا شك أنه درس لا
ينسى لكل الدعاة، إذا أردت أن يستجيب الناس لدعوتك فلا بد أولًا من حب
متبادل، أَحِبّ الناس وكن أهلًا لحبهم.
من
الموانع الخطيرة لإجابة الدعوات الجديدة الصالحة، الكِبر، آفة عظيمة تصيب
قلوب بعض العباد فتصدهم عن كل خير، الكبر أخرج إبليس من الجنة، والكبر أخرج
المتكبرين في كل العصور من جنة الإيمان إلى جحيم الكفر والضلال {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [النمل: 14].
الكبر
أخرج معظم عمالقة الكفر في مكة من دائرة الإيمان إلى دائرة الجحود، بل قل
معظم أفراد الكفر، فالكافر لا يكون عملاقًا، مثلًا الوليد بن المغيرة كان
يستكبر أن يتبع محمدًا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31].
لو نزل على عظيم في مكة كالوليد بن المغيرة، أو على عظيم في الطائف كعروة بن مسعود الثقفي، لو نزل على هؤلاء لاتبعوهم، ومحمد
ليس عظيمًا فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء
مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق، ولا عقيدة، بل في وفرة مال أو
سعة أملاك أو بأس سلطان.
هؤلاء المتكبرون المتغطرسون يطمس الله على قلوبهم، فلا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا {سَأَصْرِفُ
عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
وهكذا صرف الله قلوب المتكبرين عن الإيمان، ولكن أبو بكر الصديق
ليس من هذا الصنف، كان الصديق متواضعًا شديد التواضع، هينًا لينًا سهلاً
محببًا، ذكرنا طرفًا من تواضعه وسنذكر أطرافًا أخرى في مواقف قادمة، ومن
الصعب أن تخص مواقف التواضع في حياة الصديق؛ لأن تواضعه لم يكن مختلقًا أو
مصطنعًا، بل كان تواضعًا فطريًّا أصيلاً في شخصيته، هذه النفس المتواضعة
للحق كان من السهل عليها جدًا أن ترى سبيل الرشد، وأن تتخذه سبيلا، وأن ترى
سبيل الغي، ولا تتخذه سبيلا، وهو درس لا يُنسى للدعاة، فدعوة الإنسان
الهين اللين المتواضع أبرك ألف مرة من دعوة المتكبر المتغطرس، وإن كان
زعيمًا ممكنًا، وسبحان الله، فكما أن الحب المتبادل يسهل الدعوة، ويسهل
قبول الفكرة الجديدة، فالتواضع المتبادل يسهل الدعوة أيضًا، ويسهل قبول
الفكرة الجديدة أيضًا، فالرسول محمد
من أشد الناس تواضعًا، بل هو أشدهم على الإطلاق، ولا شك أن قبول الفكرة من
الداعية الذي لا يتكبر على الخلق يكون سهلًا سلسًا طبيعيًا، بينما لا يقبل
الناس عادة أفكار المتكبرين.
رابعًا :الموانع الخطيرة لإجابة الدعوات الجديدة الصالحة، الكِبر، آفة عظيمة تصيب
قلوب بعض العباد فتصدهم عن كل خير، الكبر أخرج إبليس من الجنة، والكبر أخرج
المتكبرين في كل العصور من جنة الإيمان إلى جحيم الكفر والضلال {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [النمل: 14].
الكبر
أخرج معظم عمالقة الكفر في مكة من دائرة الإيمان إلى دائرة الجحود، بل قل
معظم أفراد الكفر، فالكافر لا يكون عملاقًا، مثلًا الوليد بن المغيرة كان
يستكبر أن يتبع محمدًا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31].
لو نزل على عظيم في مكة كالوليد بن المغيرة، أو على عظيم في الطائف كعروة بن مسعود الثقفي، لو نزل على هؤلاء لاتبعوهم، ومحمد
ليس عظيمًا فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء
مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق، ولا عقيدة، بل في وفرة مال أو
سعة أملاك أو بأس سلطان.
هؤلاء المتكبرون المتغطرسون يطمس الله على قلوبهم، فلا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا {سَأَصْرِفُ
عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
وهكذا صرف الله قلوب المتكبرين عن الإيمان، ولكن أبو بكر الصديق
ليس من هذا الصنف، كان الصديق متواضعًا شديد التواضع، هينًا لينًا سهلاً
محببًا، ذكرنا طرفًا من تواضعه وسنذكر أطرافًا أخرى في مواقف قادمة، ومن
الصعب أن تخص مواقف التواضع في حياة الصديق؛ لأن تواضعه لم يكن مختلقًا أو
مصطنعًا، بل كان تواضعًا فطريًّا أصيلاً في شخصيته، هذه النفس المتواضعة
للحق كان من السهل عليها جدًا أن ترى سبيل الرشد، وأن تتخذه سبيلا، وأن ترى
سبيل الغي، ولا تتخذه سبيلا، وهو درس لا يُنسى للدعاة، فدعوة الإنسان
الهين اللين المتواضع أبرك ألف مرة من دعوة المتكبر المتغطرس، وإن كان
زعيمًا ممكنًا، وسبحان الله، فكما أن الحب المتبادل يسهل الدعوة، ويسهل
قبول الفكرة الجديدة، فالتواضع المتبادل يسهل الدعوة أيضًا، ويسهل قبول
الفكرة الجديدة أيضًا، فالرسول محمد
من أشد الناس تواضعًا، بل هو أشدهم على الإطلاق، ولا شك أن قبول الفكرة من
الداعية الذي لا يتكبر على الخلق يكون سهلًا سلسًا طبيعيًا، بينما لا يقبل
الناس عادة أفكار المتكبرين.
يمنع طائفة
من الناس أن يصدقوا غيرهم لأنهم شخصيًّا اعتادوا الكذب، فالكذاب كثير
الكذب، والخائن كثير الخيانة غالبًا ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين، أو
يأتمن الآخرين، ذلك لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما
يتصرف، وأبو بكر لم يكن صادقًا فقط، بل كان صديقًا، كان يستقبح الكذب، وما
أوثر عنه كذبة واحدة، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره، بل هو
يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق،
والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين ،
ولم يشتهر بهذا عامًا أو عامين بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم
أموره، بل كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق
أربعين سنة؟
وكيف لهذا الذي ترك الكذب على الناس أن يكذب على الله رب العالمين؟
هذا
استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق، بل إنه لم يغب عن ذهن رجل ما عاشر
محمدًا ولا حتى رآه مثل هرقل ملك الروم، فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق
النبي ، قال أبو سفيان وكان ما زال كافرًا قال أنه لا يكذب، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب عليكم ليكذب على الله.
وهكذا فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول الفكرة، وإن كانت جديدة تمامًا.
خامسًا :من الناس أن يصدقوا غيرهم لأنهم شخصيًّا اعتادوا الكذب، فالكذاب كثير
الكذب، والخائن كثير الخيانة غالبًا ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين، أو
يأتمن الآخرين، ذلك لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما
يتصرف، وأبو بكر لم يكن صادقًا فقط، بل كان صديقًا، كان يستقبح الكذب، وما
أوثر عنه كذبة واحدة، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره، بل هو
يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق،
والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين ،
ولم يشتهر بهذا عامًا أو عامين بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم
أموره، بل كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق
أربعين سنة؟
وكيف لهذا الذي ترك الكذب على الناس أن يكذب على الله رب العالمين؟
هذا
استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق، بل إنه لم يغب عن ذهن رجل ما عاشر
محمدًا ولا حتى رآه مثل هرقل ملك الروم، فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق
النبي ، قال أبو سفيان وكان ما زال كافرًا قال أنه لا يكذب، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب عليكم ليكذب على الله.
وهكذا فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول الفكرة، وإن كانت جديدة تمامًا.
كثيرًا ما يمتنع كبراء القوم عن إجابة الدعوات، بل يواظبون على حربها، ومقاومتها بسبب الخوف على السيادة والحكم.
فالحاكم الذي يستمد قوته من شرعه الذي وضعه للناس، يخشى إن جاء شرع جديد أن يستبدل بصاحب هذا الشرع، والرسول يدعو أن يكون الحكم لله {إِنِ
الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]. {أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فأسياد
البلد يرفضون السيادة الجديدة، وهذا الأمر صد طائفة ضخمة من حكام مكة في
ذلك الزمان، وهذا الأمر هو الذي صد زعماء القوم من زمان نوح وإلى يوم
القيامة، الخوف على السلطان، عبد الله بن أُبَي بن سلول زعيم المنافقين في
المدينة، لماذا كان يكره محمدًا ؟
لأن الأوس والخزرج كانوا ينسجون له الخرز حتى يتوجوه ملكًا على المدينة، ثم جاء رسول الله ،
فاستلم سدة الحكم بالمدينة، وجعل الشرع لله والأمر لله والحكم لله، فأبت
نفس ابن أبي سلول ذلك، فرفض الإيمان، ثم ادعاه ظاهرًا فأصبح منافقًا، أما
أبو بكر الصديق
فلم يكن زعيمًا من زعماء قريش، وإن كان من أهل الشرف هناك، فلم يكن يخاف
على ملك ضائع، أو سلطان مبدد، فلم تكن السيادة والزعامة عائقًا أمامه،
والرسول الكريم
أيضًا لم يكن زعيمًا في مكة، ولم يكن يطلب زعامة بدعوته الجديدة، بل عرضت
عليه الزعامة مقابل ترك هذه الدعوة، فرفض رفضًا حاسمًا باتًا، وهكذا التقى
الحبيبان من جديد النبي محمد والصديق ، التقيا في رفض الزعامة، ورفض طلبها، فهان على محمد توصيل الدعوة، وهان على الصديق قبولها، ولكنه هذا لا يعني عدم قبول الزعماء للدعوة بشكل مطلق، فقد يهدي الله أحدهم، كما حدث مع سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وهم من زعماء الأنصار، ولكن لا تبدأ بالزعمـاء.
سادسًا :فالحاكم الذي يستمد قوته من شرعه الذي وضعه للناس، يخشى إن جاء شرع جديد أن يستبدل بصاحب هذا الشرع، والرسول يدعو أن يكون الحكم لله {إِنِ
الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]. {أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فأسياد
البلد يرفضون السيادة الجديدة، وهذا الأمر صد طائفة ضخمة من حكام مكة في
ذلك الزمان، وهذا الأمر هو الذي صد زعماء القوم من زمان نوح وإلى يوم
القيامة، الخوف على السلطان، عبد الله بن أُبَي بن سلول زعيم المنافقين في
المدينة، لماذا كان يكره محمدًا ؟
لأن الأوس والخزرج كانوا ينسجون له الخرز حتى يتوجوه ملكًا على المدينة، ثم جاء رسول الله ،
فاستلم سدة الحكم بالمدينة، وجعل الشرع لله والأمر لله والحكم لله، فأبت
نفس ابن أبي سلول ذلك، فرفض الإيمان، ثم ادعاه ظاهرًا فأصبح منافقًا، أما
أبو بكر الصديق
فلم يكن زعيمًا من زعماء قريش، وإن كان من أهل الشرف هناك، فلم يكن يخاف
على ملك ضائع، أو سلطان مبدد، فلم تكن السيادة والزعامة عائقًا أمامه،
والرسول الكريم
أيضًا لم يكن زعيمًا في مكة، ولم يكن يطلب زعامة بدعوته الجديدة، بل عرضت
عليه الزعامة مقابل ترك هذه الدعوة، فرفض رفضًا حاسمًا باتًا، وهكذا التقى
الحبيبان من جديد النبي محمد والصديق ، التقيا في رفض الزعامة، ورفض طلبها، فهان على محمد توصيل الدعوة، وهان على الصديق قبولها، ولكنه هذا لا يعني عدم قبول الزعماء للدعوة بشكل مطلق، فقد يهدي الله أحدهم، كما حدث مع سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وهم من زعماء الأنصار، ولكن لا تبدأ بالزعمـاء.
تعارض
المصالح من أشد المعوقات لقبول الدعوات الجديدة، وخاصة المصالح المالية،
قد تؤثر الدعوة الجديدة سلبًا على مصلحة أحد الناس المادية، فيقاوم الدعوة
حفاظًا على مصلحته، وأبو بكر الصديق كان تاجرًا، ودين الإسلام لا يمنع
التجارة، بل على العكس يحفز عليها، وهو حتى إن لم يكن يعرف تفاصيل هذا
الدين، وماذا يبيح أو يمنع التجارة؟ إلا أنه يرى الداعية لهذا الدين يعمل
تاجرًا، وذلك أكثر من خمسة عشر عامًا متتالية منذ زواجه من السيدة خديجة
رضي الله عنها، بل قبل ذلك، فقد كان يرعى تجارة عمه أبي طالب، إذن الوظيفة
محفوظة، لكن ما بال تجار مكة غير الصديق يقاومون الدعوة بينما انخرط فيها
الصديق؟
مكة بلد آمن، وبه المسجد الحرام وأهل الجزيرة العربية كانوا
يذهبون بتجارتهم، وأموالهم يتاجرون في هذا المكان الآمن، وتجار مكة
يستفيدون من هذا تمامًا، فإذا انتشرت دعوة محمد ،
فأهل مكة يتوقعون حربًا لها من العرب، وستتحول البلد الآمن إلى بلد قلاقل
وفتن ولا يأمنوا على تجارتهم؛ فلذلك سارعوا حماية لمصالحهم التجارية
والاقتصادية، بمقاومة الدعوة في مهدها، بينما الصديق وإن كان تاجرًا، إلا
أنه جُبِل على العطاء والكرم والزهد في المال حتى قبل إسلامه، فلم يكن حب
المال عائقًا أمام الصديق يمنع من دخول الدين، وسيأتي تفصيل هذه النقطة إن
شاء الله عند الحديث عن السمة الرابعة من سمات الصديق وهي (إنكار الذات) إذ
نذكر طرفًا من عطائه ،
لكن المهم هنا أن نعلم أن تجار مكة الذين تغلغل حب المال في قلوبهم كانت
أموالهم حجر عثرة في طريق إيمانهم، بينما تميز الصِّديق عن أقرانه بعطائه
وكرمه، ما بالكم إن كان يستمع إلى دعوة تأتي على لسان رجل ما تعلق بالمال
في حياته ولو مرة واحدة سواء قبل بعثته أو بعد بعثته، وسواء قبل تمكينه أو
بعد تمكينه، لا شك أن لقاء الزاهدين في المال سيكون لقاءًا مثمرًا
إيجابيًا، فإن أردت أن تبدأ فابدأ بالكريم، الذي لا يتعلق بمال، ولا يبكي
على ثروة.
سابعًا :المصالح من أشد المعوقات لقبول الدعوات الجديدة، وخاصة المصالح المالية،
قد تؤثر الدعوة الجديدة سلبًا على مصلحة أحد الناس المادية، فيقاوم الدعوة
حفاظًا على مصلحته، وأبو بكر الصديق كان تاجرًا، ودين الإسلام لا يمنع
التجارة، بل على العكس يحفز عليها، وهو حتى إن لم يكن يعرف تفاصيل هذا
الدين، وماذا يبيح أو يمنع التجارة؟ إلا أنه يرى الداعية لهذا الدين يعمل
تاجرًا، وذلك أكثر من خمسة عشر عامًا متتالية منذ زواجه من السيدة خديجة
رضي الله عنها، بل قبل ذلك، فقد كان يرعى تجارة عمه أبي طالب، إذن الوظيفة
محفوظة، لكن ما بال تجار مكة غير الصديق يقاومون الدعوة بينما انخرط فيها
الصديق؟
مكة بلد آمن، وبه المسجد الحرام وأهل الجزيرة العربية كانوا
يذهبون بتجارتهم، وأموالهم يتاجرون في هذا المكان الآمن، وتجار مكة
يستفيدون من هذا تمامًا، فإذا انتشرت دعوة محمد ،
فأهل مكة يتوقعون حربًا لها من العرب، وستتحول البلد الآمن إلى بلد قلاقل
وفتن ولا يأمنوا على تجارتهم؛ فلذلك سارعوا حماية لمصالحهم التجارية
والاقتصادية، بمقاومة الدعوة في مهدها، بينما الصديق وإن كان تاجرًا، إلا
أنه جُبِل على العطاء والكرم والزهد في المال حتى قبل إسلامه، فلم يكن حب
المال عائقًا أمام الصديق يمنع من دخول الدين، وسيأتي تفصيل هذه النقطة إن
شاء الله عند الحديث عن السمة الرابعة من سمات الصديق وهي (إنكار الذات) إذ
نذكر طرفًا من عطائه ،
لكن المهم هنا أن نعلم أن تجار مكة الذين تغلغل حب المال في قلوبهم كانت
أموالهم حجر عثرة في طريق إيمانهم، بينما تميز الصِّديق عن أقرانه بعطائه
وكرمه، ما بالكم إن كان يستمع إلى دعوة تأتي على لسان رجل ما تعلق بالمال
في حياته ولو مرة واحدة سواء قبل بعثته أو بعد بعثته، وسواء قبل تمكينه أو
بعد تمكينه، لا شك أن لقاء الزاهدين في المال سيكون لقاءًا مثمرًا
إيجابيًا، فإن أردت أن تبدأ فابدأ بالكريم، الذي لا يتعلق بمال، ولا يبكي
على ثروة.
التحرر من قيود القبلية
والتعصب. والقبلية عند المتحمسين تكون حاجزا لا يُعبر، وعائقًا لا يُتخطى،
وخاصة في هذه البيئة العربية، ويزداد الأمر خطورة إذا كان هناك تنافس
شديدًا وحاميًا بين قبيلتين من القبائل، فهذا الأمر على سبيل المثال هو
الذي صد رجلاً عاقلاً حكيمًا كعمرو بن هشام (أبو جهل) فإذا به بسبب قبيلته
ينقلب إلى أبي جهل، قال أبو جهل وهو من قبيلة مخزوم: تنازعنا نحن وبنو عبد
مناف الشرف، أطعموا، فأطعمنا، وحملوا، فحملنا، وأعطوا، فأعطينا، حتى إذا
تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من
السماء. فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه.
فهكذا منعت القَبَلية أبا جهل وأمثاله من دخول الإسلام.
ورجلٌ من بني حنيفة، وهي فرع من ربيعة آمن بمسيلمة الكذاب، وكفر بما أنزل على محمد ، ولما سئل عن ذلك قال: والله أعلم أن محمدًا صادق، وأن مسيلمة كذاب، لكن كاذب بني ربيعة، أحب إليَّ من صادق مضر.
أبو بكر الصديق
من قبيلة ضعيفة، وهي فرع صغير من فروع قريش، تلك هي قبيلة تيم، ولم تكن
القبيلة تنازع أحدًا، أو تنافس أحدًا فوقاه الله بذلك شر التعصب القبلي، ثم
هو يستمع الدعوة من رجل نجيب كالنبي محمد أشرف قريش نسبًا، ومن قبيلة قوية ذات منعة، ومع ذلك فالرسول محمد
لا يعتمد على نسبه وقبيلته، بل يدعو أبا بكر وهو من قبيلة أخرى، وهي كما
ذكرنا قبيلة ضعيفة نسبيًا، إذن هذان رجلان نزعا من قلبيْهما حمية الجاهلية،
ونزعا من قلبيْهما النعرة القبلية، وبحثَا عن الحق أينما كان، لا فرق بين
هاشمي أو مخزومي، ولا هاشمي وتيمي، بل لا فرق بين قريش وغيرها، بل لا فرق
عربي وأعجمي، الدعوة لجميع الخلق، والمفاضلة بينهم بالتقوى، هذا مقياس عادل
يعجب رجلاً حصيفًا كأبي بكر الصديق .
والقبلية
قديمًا هي في مقابل القومية حديثًا، فالقومية العربية، والقومية التركية،
والقومية البربرية، والقومية الكردية، كل هذه صور من القبلية القديمة صدت
ومازالت تصد كثيرًا من الناس عن سماع كلمة الحق وإجابة داعي الإيمان، وما
تفرق المسلمون إلا بقومياتهم، ووالله لا يجتمعون إلا على الإسلام، وذلك
مصداقًا لقول الفاروق : "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فأينما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
والتعصب. والقبلية عند المتحمسين تكون حاجزا لا يُعبر، وعائقًا لا يُتخطى،
وخاصة في هذه البيئة العربية، ويزداد الأمر خطورة إذا كان هناك تنافس
شديدًا وحاميًا بين قبيلتين من القبائل، فهذا الأمر على سبيل المثال هو
الذي صد رجلاً عاقلاً حكيمًا كعمرو بن هشام (أبو جهل) فإذا به بسبب قبيلته
ينقلب إلى أبي جهل، قال أبو جهل وهو من قبيلة مخزوم: تنازعنا نحن وبنو عبد
مناف الشرف، أطعموا، فأطعمنا، وحملوا، فحملنا، وأعطوا، فأعطينا، حتى إذا
تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من
السماء. فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه.
فهكذا منعت القَبَلية أبا جهل وأمثاله من دخول الإسلام.
ورجلٌ من بني حنيفة، وهي فرع من ربيعة آمن بمسيلمة الكذاب، وكفر بما أنزل على محمد ، ولما سئل عن ذلك قال: والله أعلم أن محمدًا صادق، وأن مسيلمة كذاب، لكن كاذب بني ربيعة، أحب إليَّ من صادق مضر.
أبو بكر الصديق
من قبيلة ضعيفة، وهي فرع صغير من فروع قريش، تلك هي قبيلة تيم، ولم تكن
القبيلة تنازع أحدًا، أو تنافس أحدًا فوقاه الله بذلك شر التعصب القبلي، ثم
هو يستمع الدعوة من رجل نجيب كالنبي محمد أشرف قريش نسبًا، ومن قبيلة قوية ذات منعة، ومع ذلك فالرسول محمد
لا يعتمد على نسبه وقبيلته، بل يدعو أبا بكر وهو من قبيلة أخرى، وهي كما
ذكرنا قبيلة ضعيفة نسبيًا، إذن هذان رجلان نزعا من قلبيْهما حمية الجاهلية،
ونزعا من قلبيْهما النعرة القبلية، وبحثَا عن الحق أينما كان، لا فرق بين
هاشمي أو مخزومي، ولا هاشمي وتيمي، بل لا فرق بين قريش وغيرها، بل لا فرق
عربي وأعجمي، الدعوة لجميع الخلق، والمفاضلة بينهم بالتقوى، هذا مقياس عادل
يعجب رجلاً حصيفًا كأبي بكر الصديق .
والقبلية
قديمًا هي في مقابل القومية حديثًا، فالقومية العربية، والقومية التركية،
والقومية البربرية، والقومية الكردية، كل هذه صور من القبلية القديمة صدت
ومازالت تصد كثيرًا من الناس عن سماع كلمة الحق وإجابة داعي الإيمان، وما
تفرق المسلمون إلا بقومياتهم، ووالله لا يجتمعون إلا على الإسلام، وذلك
مصداقًا لقول الفاروق : "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فأينما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
ثامنًا :
بعض الناس يكون أسيرًا للتقاليد، وإن كانت
باطلة، ويكون مفتونًا بالآباء والأجداد، ولا يتخيل أن ما عاش هو عليه فترات
وعاش عليه الأقدمون فترات أطول ما هو إلا ضلال في ضلال، الدين الجديد لا
يُسَفّه أحلامهم فقط، بل يسفه أحلام السابقين، يسفه أحلام الآباء والأجداد،
يهدم التقاليد، يزلزل التراث، هذا الذي صد رجلًا مثل أبي لهب، فأبو لهب من
ذات قبيلة الرسول ،
بل هو عمه، لكنه يرفض أن يسفه فكر الآباء والأجداد، وأن يسفه فكره هو
شخصيًا، ولذلك فهو يرفض الدعوة، بل أشد من ذلك وأعجب أبو طالب عم رسول الله
،
ومن أكثر الناس رعاية له، ومن أشد الناس حبًا فيه، ومع ذلك وقف حاجز
التقاليد أمام إيمانه، ووقف تقديسه لآبائه وأجداده أمام دخول الدين مع أنه
يصدق محمد في كل كلمة قالها، لكن أيخالف الأجداد؟
هذا في عرفه
مستحيل، فإذا به على فراش الموت، وخير الدعاة وأحب الخلق إلى أبي طالب يقف
على رأسه يرجوه أن يقول كلمة واحدة، ثم سيموت بعدها: "أَيْ عَمِّ قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ".
وماذا
سيضره بعد الموت من كلام الناس والعرب، ولكن أبدًا التقاليد الموروثة
والعقائد العقيمة المسمومة، أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يقفان على رأسه
يلعبان على هذا الوتر القبيح، وتر التقاليد المخالفة للشرع، يقولان: يا أبا
طالب ترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزالا يكلماه حتى كانت آخر كلماته: على
ملة عبد المطلب.
لا حول ولا قوة إلا بالله خسارة فادحة، وخطب عظيم، أبو بكر الصديق
لم يكن متمسكًا بتقاليد آبائه وأجداده، وكان من القليلين الذين يرتبطون
بالحق لا بقائل الكلام، فالرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال،
فهو يعلم أن الحق قد يأتي على لسان رجل شاب من قبيلة أخرى، وقد لا يأتي على
لسان مُعَمّر خبير ولو كان أبوه أو جده، كما أن الله مَنّ عليه بأبيه وأمه
أحياء عند ظهور الدعوة الإسلامية، فما زالت هناك الفرحة عند دعوتهما إلى
الحق، وبذلك لا تسفه أحلامهما، وقد تم له بفضل الله ما أراد وما استراح إلا
وقد أدخل أبويه وأولاده وزوجاته في هذا الدين، فاعرض كل تقليد أو موروث من
الآباء والأجداد على الحق، فإن اتفق فبها ونعمت، وإن خالف، فلا تعدل بشرع
الله شيئًا.
تاسعًا :باطلة، ويكون مفتونًا بالآباء والأجداد، ولا يتخيل أن ما عاش هو عليه فترات
وعاش عليه الأقدمون فترات أطول ما هو إلا ضلال في ضلال، الدين الجديد لا
يُسَفّه أحلامهم فقط، بل يسفه أحلام السابقين، يسفه أحلام الآباء والأجداد،
يهدم التقاليد، يزلزل التراث، هذا الذي صد رجلًا مثل أبي لهب، فأبو لهب من
ذات قبيلة الرسول ،
بل هو عمه، لكنه يرفض أن يسفه فكر الآباء والأجداد، وأن يسفه فكره هو
شخصيًا، ولذلك فهو يرفض الدعوة، بل أشد من ذلك وأعجب أبو طالب عم رسول الله
،
ومن أكثر الناس رعاية له، ومن أشد الناس حبًا فيه، ومع ذلك وقف حاجز
التقاليد أمام إيمانه، ووقف تقديسه لآبائه وأجداده أمام دخول الدين مع أنه
يصدق محمد في كل كلمة قالها، لكن أيخالف الأجداد؟
هذا في عرفه
مستحيل، فإذا به على فراش الموت، وخير الدعاة وأحب الخلق إلى أبي طالب يقف
على رأسه يرجوه أن يقول كلمة واحدة، ثم سيموت بعدها: "أَيْ عَمِّ قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ".
وماذا
سيضره بعد الموت من كلام الناس والعرب، ولكن أبدًا التقاليد الموروثة
والعقائد العقيمة المسمومة، أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يقفان على رأسه
يلعبان على هذا الوتر القبيح، وتر التقاليد المخالفة للشرع، يقولان: يا أبا
طالب ترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزالا يكلماه حتى كانت آخر كلماته: على
ملة عبد المطلب.
لا حول ولا قوة إلا بالله خسارة فادحة، وخطب عظيم، أبو بكر الصديق
لم يكن متمسكًا بتقاليد آبائه وأجداده، وكان من القليلين الذين يرتبطون
بالحق لا بقائل الكلام، فالرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال،
فهو يعلم أن الحق قد يأتي على لسان رجل شاب من قبيلة أخرى، وقد لا يأتي على
لسان مُعَمّر خبير ولو كان أبوه أو جده، كما أن الله مَنّ عليه بأبيه وأمه
أحياء عند ظهور الدعوة الإسلامية، فما زالت هناك الفرحة عند دعوتهما إلى
الحق، وبذلك لا تسفه أحلامهما، وقد تم له بفضل الله ما أراد وما استراح إلا
وقد أدخل أبويه وأولاده وزوجاته في هذا الدين، فاعرض كل تقليد أو موروث من
الآباء والأجداد على الحق، فإن اتفق فبها ونعمت، وإن خالف، فلا تعدل بشرع
الله شيئًا.
بعض الناس يفتنون بالديانة
القديمة، ويعتقدون في صحتها، وفي نبل القائمين عليها، هذا الذي صد بعض
النصارى مثلًا، فهم قد غالوا في المسيح جدًا حتى جعلوه إلهًا، أو ابن الله،
تعالى عما يصفون، ومن ثم فهم لا يتخيلون أن يأتي رجل، أو تأتي دعوة ترد
هذا الإله المعبود إلى عبوديته، وترد هذا الرب إلى بشريته، فكانت الحرب
التي لا هوادة فيها.
أما أبو بكر الصديق ، فأي شيء يُعَظّم؟
أيُعَظّم اللات؟
أيعظم العزى؟
أيعظم هبل؟
ألهم تاريخ يشهد لهم بالاحترام والتقديس؟
أبو بكر الصديق
ما سجد لصنم قط في حياته سواء قبل إيمانه أو بعد إيمانه، بل كان دائم
الازدراء لهذه الأحجار، ويعلم علم يقين أنها ليست آلهة، فكيف ينفع غيره من
لا يستطيع نفع نفسه؟
فكانت دعوة الإسلام لأبي بكر خلاصًا من دين ثقيل على النفس، وراحة لقلب شك طويلًا في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
عاشرًا :القديمة، ويعتقدون في صحتها، وفي نبل القائمين عليها، هذا الذي صد بعض
النصارى مثلًا، فهم قد غالوا في المسيح جدًا حتى جعلوه إلهًا، أو ابن الله،
تعالى عما يصفون، ومن ثم فهم لا يتخيلون أن يأتي رجل، أو تأتي دعوة ترد
هذا الإله المعبود إلى عبوديته، وترد هذا الرب إلى بشريته، فكانت الحرب
التي لا هوادة فيها.
أما أبو بكر الصديق ، فأي شيء يُعَظّم؟
أيُعَظّم اللات؟
أيعظم العزى؟
أيعظم هبل؟
ألهم تاريخ يشهد لهم بالاحترام والتقديس؟
أبو بكر الصديق
ما سجد لصنم قط في حياته سواء قبل إيمانه أو بعد إيمانه، بل كان دائم
الازدراء لهذه الأحجار، ويعلم علم يقين أنها ليست آلهة، فكيف ينفع غيره من
لا يستطيع نفع نفسه؟
فكانت دعوة الإسلام لأبي بكر خلاصًا من دين ثقيل على النفس، وراحة لقلب شك طويلًا في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
من
العوائق الهامة عند بعض الناس، أو عند كثير من الناس انغلاق الفكر، وضيق
الأفق، وغياب الفطنة والذكاء، والحقيقة إنني اعتبر الكافر إنسانًا غبيًا
شديد الغباء بكل ما تحمله الكلمة من معان، حتى وإن كان في ظاهره عالمًا أو
حكيمًا أو فيلسوفًا إذ كيف لا يهديه ذكاؤه إلى أن خالق هذا الكون بما فيه
هو إله حكيم قدير ليس كمثله شيء، دائمًا ما تأتي آيات التدبر والبحث لأولي
الألباب والعقول والنهي: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد: 19]. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 184]. {قُلْ
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ
نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
كيف يعقل أن الحجر الأصم خلق، وصور، وهدى، ورحم، وعاقب، ورزق، ونجّا؟ كيف يعقل أن بقرة تشرع أو أن شجرة تحكم وتدبر؟
الكافر شديد الغباء، هذا الذي منع مثلاً رجلاً مثل حبيب بن عمرو الثقفي من زعماء ثقيف في الطائف، قال لرسول الله :
والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا
من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
وكأنه لا يستطيع التفكير وما قاده عقله القاصر إلا إلى هذا الجهل المُطبق.
وأبو بكر الصديق
ليس كذلك، بل هو حاد الذكاء تمامًا وكثيرًا ما كان يلتقط ببساطة ما يذهب
عن ذهن الجميع، اتسم بذكاء فطري، وعبقرية فذة، إذا كان يلتقط الصعب من
الأمور، أفلا يلتقط أن لهذا الكون خالقًا؟ وأن محمدًا رسول؟
حادي عشر :العوائق الهامة عند بعض الناس، أو عند كثير من الناس انغلاق الفكر، وضيق
الأفق، وغياب الفطنة والذكاء، والحقيقة إنني اعتبر الكافر إنسانًا غبيًا
شديد الغباء بكل ما تحمله الكلمة من معان، حتى وإن كان في ظاهره عالمًا أو
حكيمًا أو فيلسوفًا إذ كيف لا يهديه ذكاؤه إلى أن خالق هذا الكون بما فيه
هو إله حكيم قدير ليس كمثله شيء، دائمًا ما تأتي آيات التدبر والبحث لأولي
الألباب والعقول والنهي: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد: 19]. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 184]. {قُلْ
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ
نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
كيف يعقل أن الحجر الأصم خلق، وصور، وهدى، ورحم، وعاقب، ورزق، ونجّا؟ كيف يعقل أن بقرة تشرع أو أن شجرة تحكم وتدبر؟
الكافر شديد الغباء، هذا الذي منع مثلاً رجلاً مثل حبيب بن عمرو الثقفي من زعماء ثقيف في الطائف، قال لرسول الله :
والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا
من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
وكأنه لا يستطيع التفكير وما قاده عقله القاصر إلا إلى هذا الجهل المُطبق.
وأبو بكر الصديق
ليس كذلك، بل هو حاد الذكاء تمامًا وكثيرًا ما كان يلتقط ببساطة ما يذهب
عن ذهن الجميع، اتسم بذكاء فطري، وعبقرية فذة، إذا كان يلتقط الصعب من
الأمور، أفلا يلتقط أن لهذا الكون خالقًا؟ وأن محمدًا رسول؟
الجبن
والخوف الشديد إلى درجة الهلع يمنع كثيرًا من الناس من تغيير المألوف،
الجبن يمنع كثيرًا من البشر أن يظهروا آراءهم، أو يعبروا عن أفكارهم، وكم
من قضية ماتت بسبب جبن أصحابها، وكم من حق ضاع بسبب جبن طلابه، أبو بكر
أشجع الصحابة وأقواهم شكيمة، ما نكص على عقبيه منذ أسلم، ولم يؤثر عنه فرار
ولا خضوع ولا فتور، فلما عرض عليه الإسلام، ورأى الحق فيه ما خاف من أحد،
ولا اعتبر بالجموع التي ستواجه الدعوة حتمًا، والإسلام قرار جريء، ويحتاج
إلى رجل جريء وكان أبو بكر ذلك الرجل.
ثاني عشر :والخوف الشديد إلى درجة الهلع يمنع كثيرًا من الناس من تغيير المألوف،
الجبن يمنع كثيرًا من البشر أن يظهروا آراءهم، أو يعبروا عن أفكارهم، وكم
من قضية ماتت بسبب جبن أصحابها، وكم من حق ضاع بسبب جبن طلابه، أبو بكر
أشجع الصحابة وأقواهم شكيمة، ما نكص على عقبيه منذ أسلم، ولم يؤثر عنه فرار
ولا خضوع ولا فتور، فلما عرض عليه الإسلام، ورأى الحق فيه ما خاف من أحد،
ولا اعتبر بالجموع التي ستواجه الدعوة حتمًا، والإسلام قرار جريء، ويحتاج
إلى رجل جريء وكان أبو بكر ذلك الرجل.
الانغماس
في الشهوات أيضًا من الموانع المعروفة للدعوات الإصلاحية، فصاحب الشهوات
لا يريد أن ينقطع عنها، ولا يريد أن يبتعد عنها ولو إلى فترة قليلة {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
هكذا
الذي جعل من نفسه تابعًا للشهوات لا بد أن يضيع الصلاة، ومن أضاع الصلاة
كان على إضاعة غيرها أقدر، بل إنه الله يجعل طائفة من الناس وكأنهم يعبدون
هواهم وشهواتهم، اسمع إلى قوله U: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
هذا الرجل الغارق في الشهوات المنغمس في المعاصي يكون بعيدًا تمامًا عن الدعوات الأخلاقية الفاضلة.
أبو
بكر لم يكن من هذه الطائفة، بل على العكس، إنه من خيار الناس أخلاقًا حتى
قبل إسلامه، ويعظم من شأن الفضائل والمكارم، وما طعنه طاعن بشيء في أخلاقه،
حتى بعد إسلامه ومعاداته للكفر والكافرين، ودعوة الإسلام هي دعوة الأخلاق
العظمى في الأرض، والداعي إليها
أكمل البشر أخلاقًا، قبل وبعد البعثة، ولا يخفى ذلك على أحد، وكان الجميع
يعلم أن هذه الدعوة هي دعوة أخلاق، حتى قبل التحريم الكامل للخمر، والزنا،
والربا، وغيرها من الفواحش، ها هو جعفر بن أبي طالب يخاطب النجاشي ملك الحبشة في العام الخامس من البعثة يصف أخلاق الإسلام:
"أيها
الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى
بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى
الله وحده؛ لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من
الحجارة، والأوثان، وأَمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم،
وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور،
وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات".
إذن الدعوة الإسلامية أخلاقية منذ اللحظات الأولى لها، ورجل له أخلاق الصديق لا بد أن يستجيب لهذه الدعوة.
ثالث عشر :في الشهوات أيضًا من الموانع المعروفة للدعوات الإصلاحية، فصاحب الشهوات
لا يريد أن ينقطع عنها، ولا يريد أن يبتعد عنها ولو إلى فترة قليلة {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
هكذا
الذي جعل من نفسه تابعًا للشهوات لا بد أن يضيع الصلاة، ومن أضاع الصلاة
كان على إضاعة غيرها أقدر، بل إنه الله يجعل طائفة من الناس وكأنهم يعبدون
هواهم وشهواتهم، اسمع إلى قوله U: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
هذا الرجل الغارق في الشهوات المنغمس في المعاصي يكون بعيدًا تمامًا عن الدعوات الأخلاقية الفاضلة.
أبو
بكر لم يكن من هذه الطائفة، بل على العكس، إنه من خيار الناس أخلاقًا حتى
قبل إسلامه، ويعظم من شأن الفضائل والمكارم، وما طعنه طاعن بشيء في أخلاقه،
حتى بعد إسلامه ومعاداته للكفر والكافرين، ودعوة الإسلام هي دعوة الأخلاق
العظمى في الأرض، والداعي إليها
أكمل البشر أخلاقًا، قبل وبعد البعثة، ولا يخفى ذلك على أحد، وكان الجميع
يعلم أن هذه الدعوة هي دعوة أخلاق، حتى قبل التحريم الكامل للخمر، والزنا،
والربا، وغيرها من الفواحش، ها هو جعفر بن أبي طالب يخاطب النجاشي ملك الحبشة في العام الخامس من البعثة يصف أخلاق الإسلام:
"أيها
الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى
بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى
الله وحده؛ لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من
الحجارة، والأوثان، وأَمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم،
وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور،
وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات".
إذن الدعوة الإسلامية أخلاقية منذ اللحظات الأولى لها، ورجل له أخلاق الصديق لا بد أن يستجيب لهذه الدعوة.
من
الموانع الخطيرة للدعوات الإصلاحية التعود على الذل. يكون المرء ذليلاً لا
يستطيع الحراك إلا بإذن الذي يسقيه الذل والهوان، وأبو بكر الصديق
كان عزيزًا في قومه، صاحب رأي وشرف ومكانة، فكان يأخذ رأيه بإرادته، لا
يمليه عليه أحد، والإنسان الذليل ليس بالتبعية أن يكون عبدًا، فكم من
العبيد كانت لهم نفوس حرة، وكم ممن يظنون أنفسهم أحرارًا هم أذلاء لغيرهم،
هذا بلال العبد يأخذ قراره بنفسه وينخرط بسرعة في فريق المؤمنين، وهذا على
الجانب الآخر وفد بني شيبان، وهو على درجة عالية من المكانة والعز والشرف
بين العرب يرفض الإسلام لماذا؟
لأنهم أذلاء لفارس، يسكنون بجوار
فارس، ومع عزتهم الظاهرة إلا أنهم لا يأخذون قرارًا ولا يقطعون رأيًا يغضب
الأسياد الفارسيين، وقالوا: إن هذا الأمر-أي الإسلام- مما تكرهه الملوك.
ولذلك أجلوا إسلامهم سنوات وسنوات؛ ولذلك نلاحظ رسالة الرسول مثلاً إلى هرقل عظيم الروم، كان مما قاله فيها : "أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ". كما جاء في البخاري.
وفي رسالة كسرى فارس قال : "فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ". فشعوب الروم وفارس كانت ذليلة، لا تأخذ قرارًا إلا بعد رأي الأسياد، حتى لو كان القرار قرار جنة أو نار.
رابع عشر :الموانع الخطيرة للدعوات الإصلاحية التعود على الذل. يكون المرء ذليلاً لا
يستطيع الحراك إلا بإذن الذي يسقيه الذل والهوان، وأبو بكر الصديق
كان عزيزًا في قومه، صاحب رأي وشرف ومكانة، فكان يأخذ رأيه بإرادته، لا
يمليه عليه أحد، والإنسان الذليل ليس بالتبعية أن يكون عبدًا، فكم من
العبيد كانت لهم نفوس حرة، وكم ممن يظنون أنفسهم أحرارًا هم أذلاء لغيرهم،
هذا بلال العبد يأخذ قراره بنفسه وينخرط بسرعة في فريق المؤمنين، وهذا على
الجانب الآخر وفد بني شيبان، وهو على درجة عالية من المكانة والعز والشرف
بين العرب يرفض الإسلام لماذا؟
لأنهم أذلاء لفارس، يسكنون بجوار
فارس، ومع عزتهم الظاهرة إلا أنهم لا يأخذون قرارًا ولا يقطعون رأيًا يغضب
الأسياد الفارسيين، وقالوا: إن هذا الأمر-أي الإسلام- مما تكرهه الملوك.
ولذلك أجلوا إسلامهم سنوات وسنوات؛ ولذلك نلاحظ رسالة الرسول مثلاً إلى هرقل عظيم الروم، كان مما قاله فيها : "أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ". كما جاء في البخاري.
وفي رسالة كسرى فارس قال : "فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ". فشعوب الروم وفارس كانت ذليلة، لا تأخذ قرارًا إلا بعد رأي الأسياد، حتى لو كان القرار قرار جنة أو نار.
دعوة
الإسلام دعوة رقيقة لطيفة حانية، تمس القلب، وتربت على الكتف، وتسمو
بالروح، وقلوب العباد متفاوتة، فمنهم من له قلب ألين من الحرير، ومنهم من
قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة، ولا شك أن غليظ الطباع، قاسي القلب، جافي
النفس، سيكون بعيدًا عن هذا الدين، ولا شك أيضًا أن أبا بكر الصديق لم يكن
كذلك، وتحدثنا كثيرًا عن رقته وعاطفته الجياشة ودموعه القريبة، ورجل كهذا
لا بد أن يدخل الإيمان في أعماق قلبه، ولا بد أن يتأثر بكلمات الرحمن ، ولا بد أن يتأثر بكلام حبيب الرحمن : {اللهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزُّمر: 23].
فإذا بدأت فابدأ برقيق القلب، ليّن الجانب، واتل عليه كتاب الله، وسترى عجبًا.
خامس عشر :الإسلام دعوة رقيقة لطيفة حانية، تمس القلب، وتربت على الكتف، وتسمو
بالروح، وقلوب العباد متفاوتة، فمنهم من له قلب ألين من الحرير، ومنهم من
قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة، ولا شك أن غليظ الطباع، قاسي القلب، جافي
النفس، سيكون بعيدًا عن هذا الدين، ولا شك أيضًا أن أبا بكر الصديق لم يكن
كذلك، وتحدثنا كثيرًا عن رقته وعاطفته الجياشة ودموعه القريبة، ورجل كهذا
لا بد أن يدخل الإيمان في أعماق قلبه، ولا بد أن يتأثر بكلمات الرحمن ، ولا بد أن يتأثر بكلام حبيب الرحمن : {اللهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزُّمر: 23].
فإذا بدأت فابدأ برقيق القلب، ليّن الجانب، واتل عليه كتاب الله، وسترى عجبًا.
بعض
الناس يعاني مرضًا خطيرًا لا يرجى في وجوده تغيير ولا إصلاح، بل يقعده هذا
المرض حتى يرى كيف تسير الأمور؟ ثم يسير معها أينما سارت، ذلك المرض هو
السلبية، السلبية تقعد بصاحبها عن كل خير، فلا يفعله إلا إذا فعله الناس،
ويصبح بذلك رجل إمعة، كهذا الذي صوره لنا رسول الله في حديث له رواه الترمذي عن حذيفة : "لا
تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا،
وَظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ
النَّاسُ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا".
فالرجل الإمعة هذا لا يصلح إلا أن يكون تابعًا، وهي صفة من صفات المنافقين.
{الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَاللهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
هذه السلبية هي التي صدت رجلاً عاقلاً مثل عتبة بن ربيعة، فإنه لما سمع كلام الله على لسان الرسول الكريم ،
وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت، عاد إلى قومه مسرعًا يتحدث
عن القرآن، وكأنه داعية من دعاة الإسلام، قال: سمعت قولاً، والله ما سمعت
مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.
فماذا كان نتيجة هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد ،
وماذا فعل بعد العلم، اقرأ إليه وهو يعرض رأيه، يقول عتبة بن ربيعة: يا
معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه،
فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب،
فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم
أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
فالرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية، فهو على يقين من صدق محمد ، ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام بشر، ومع ذلك فرأيه الذي يظنه حكيمًا أن تخلي قريش بين الرسول وبين العرب، فإن انتصر العرب عليه فهم مع العرب، وقد أراحوا أهل قريش من محمد ولم يصبهم أذى، وإن انتصر محمد على العرب سارعوا بالانضمام إلى محمد ،
سلبية مطلقة، فلما اعترض القوم على كلامه وقالوا: سحرك والله يا أبا
الوليد بلسانه. فماذا فعل؟ ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي
أدرك صدق الرسالة؟ قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
والقوم صنعوا السيئ والقبيح، فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم، بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي
في بدر، فإذا بعتبة بن ربيعة يحمل سيفه، ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلاً
تيقن أنه نبي، أي سلبية، وأي إمعية، هذا الطراز الفاشل لا يصلح للدعوات
المصلحة.
أبو بكر الصديق على طرفي النقيض من عتبة بن ربيعة، فليس في الإسلام رجلاً بعد النبي أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق ، ظهرت إيجابيته في كل مواقفه ، ظهرت في إسلامه، وفي إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله في فترة مكة، ثم المدينة، وفي إعداده للهجرة، وفي ثباته في كل غزوات الرسول ، وظهرت إيجابيته عند وفاة رسول الله ، وظهرت في حروب الردة وفارس والروم، وفي جمعه للقرآن، ظهرت إيجابيته في مساعدة الفقراء والمحتاجين وكبار السن من عامة المسلمين، كان
وأرضاه نبراسًا لكل مصلح، ودليلًا لكل محسن، وما معروفًا إلا وأمر به، ولا
رأى منكرًا إلا وحاول تغييره بكل طاقاته، بيده، ولسانه، وقلبه؛ لذلك شق
عليه كثيرًا أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية
من آيات الله على غير معناها الصحيح، لقد سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
ظن
بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنوا
أن الله يقول لهم: عليكم أنفسكم؛ أي اهتموا بأنفسكم فقط لا يضركم ضلال
الآخرين فلا تهتموا بهم.
والأمر على خلاف ذلك تمامًا، وقف أبو بكر ليصحح لهم الفهم، وليصلح فهم الطريق، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ". روى ذلك أصحاب السنة، والإمام أحمد، وابن ماجه،
وهكذا فإن الرجل الإيجابي العظيم كان ولا بد أن يسعى للتغيير، والإصلاح
إذا وجد المنهج القويم المعين على ذلك، وقد وجد ضالته في الإسلام فما تردد
ولا تأخر.
سادس عشر :الناس يعاني مرضًا خطيرًا لا يرجى في وجوده تغيير ولا إصلاح، بل يقعده هذا
المرض حتى يرى كيف تسير الأمور؟ ثم يسير معها أينما سارت، ذلك المرض هو
السلبية، السلبية تقعد بصاحبها عن كل خير، فلا يفعله إلا إذا فعله الناس،
ويصبح بذلك رجل إمعة، كهذا الذي صوره لنا رسول الله في حديث له رواه الترمذي عن حذيفة : "لا
تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا،
وَظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ
النَّاسُ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا".
فالرجل الإمعة هذا لا يصلح إلا أن يكون تابعًا، وهي صفة من صفات المنافقين.
{الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَاللهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
هذه السلبية هي التي صدت رجلاً عاقلاً مثل عتبة بن ربيعة، فإنه لما سمع كلام الله على لسان الرسول الكريم ،
وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت، عاد إلى قومه مسرعًا يتحدث
عن القرآن، وكأنه داعية من دعاة الإسلام، قال: سمعت قولاً، والله ما سمعت
مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.
فماذا كان نتيجة هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد ،
وماذا فعل بعد العلم، اقرأ إليه وهو يعرض رأيه، يقول عتبة بن ربيعة: يا
معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه،
فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب،
فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم
أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
فالرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية، فهو على يقين من صدق محمد ، ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام بشر، ومع ذلك فرأيه الذي يظنه حكيمًا أن تخلي قريش بين الرسول وبين العرب، فإن انتصر العرب عليه فهم مع العرب، وقد أراحوا أهل قريش من محمد ولم يصبهم أذى، وإن انتصر محمد على العرب سارعوا بالانضمام إلى محمد ،
سلبية مطلقة، فلما اعترض القوم على كلامه وقالوا: سحرك والله يا أبا
الوليد بلسانه. فماذا فعل؟ ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي
أدرك صدق الرسالة؟ قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
والقوم صنعوا السيئ والقبيح، فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم، بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي
في بدر، فإذا بعتبة بن ربيعة يحمل سيفه، ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلاً
تيقن أنه نبي، أي سلبية، وأي إمعية، هذا الطراز الفاشل لا يصلح للدعوات
المصلحة.
أبو بكر الصديق على طرفي النقيض من عتبة بن ربيعة، فليس في الإسلام رجلاً بعد النبي أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق ، ظهرت إيجابيته في كل مواقفه ، ظهرت في إسلامه، وفي إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله في فترة مكة، ثم المدينة، وفي إعداده للهجرة، وفي ثباته في كل غزوات الرسول ، وظهرت إيجابيته عند وفاة رسول الله ، وظهرت في حروب الردة وفارس والروم، وفي جمعه للقرآن، ظهرت إيجابيته في مساعدة الفقراء والمحتاجين وكبار السن من عامة المسلمين، كان
وأرضاه نبراسًا لكل مصلح، ودليلًا لكل محسن، وما معروفًا إلا وأمر به، ولا
رأى منكرًا إلا وحاول تغييره بكل طاقاته، بيده، ولسانه، وقلبه؛ لذلك شق
عليه كثيرًا أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية
من آيات الله على غير معناها الصحيح، لقد سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
ظن
بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنوا
أن الله يقول لهم: عليكم أنفسكم؛ أي اهتموا بأنفسكم فقط لا يضركم ضلال
الآخرين فلا تهتموا بهم.
والأمر على خلاف ذلك تمامًا، وقف أبو بكر ليصحح لهم الفهم، وليصلح فهم الطريق، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ". روى ذلك أصحاب السنة، والإمام أحمد، وابن ماجه،
وهكذا فإن الرجل الإيجابي العظيم كان ولا بد أن يسعى للتغيير، والإصلاح
إذا وجد المنهج القويم المعين على ذلك، وقد وجد ضالته في الإسلام فما تردد
ولا تأخر.
كثيرًا ما يقتنع الرجل بفكرة، أو قضية، أو موضوع، ثم إذا به يُصَد عنها بصحبته السيئة، فكما روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ".
كثيرًا
ما رأينا في فترة مكة مجموعات من الأصدقاء تؤمن أو مجموعات من الأصدقاء
تكفر، فالرجل يتأثر بأحبابه وأصحابه، رأينا مثلاً رجلاً عاقلاً ذكيًّا
لبيبًا مثل خالد بن الوليد يتأخر الإسلام عشرين سنة كاملة، فمَنْ أصحابه المقربون؟
عمرو بن العاص ،
ظل أيضًا عشرين سنة كافرًا، وعثمان بن أبي طلحة ظل أيضًا كافرًا عشرين
سنة، والثلاثة من أصحاب الذكاء والفطنة والمروءة والنجدة، لكن اجتمعوا على
باطل، فأضل كل واحد منهم صاحبيه، وتعاهدوا على ذلك، ثم سبحان الله بعد
السنوات الطوال، يدخل الإيمان تدريجيًّا في قلب أحدهم فيسري بسهولة إلى
الآخر، ثم إلى الثالث، ثم إذا بهم يذهبون للإسلام على يد الرسول
في يوم واحد في السنة السابعة للهجرة، وذلك ليثبتوا قيمة الصحبة، وقيمة
الأخلاء فلما كانوا على الكفر تعاهدوا عليه، ولما أشرف الإيمان في قلوبهم
أيضًا تعاهدوا عليه.
مثال آخر: هو أبو البَختري بن هشام، وكان من المشركين، لكنه لم يكن يؤذي رسول الله ، بل على العكس كان من الذين قاموا لنقض صحيفة المقاطعة المشهورة، ولكونه كف الأذى عن رسول الله ، فإن رسول الله نهى عن قتله يوم بدر، فقابله أحد الصحابة المجذر بن زياد البلوي، فوجده يقاتل بجوار صديق له، فقال: يا أبا البختري، إن رسول الله قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك. فقال: والله لأموتن أنا وهو جميعًا.
ثم
اقتتلا فاضطر، المجذر إلى قتله، فهذه صداقة كافرة قادتهما إلى موت على
كفر، ولو لم تكن الصداقة لنجا أبو البختري، ولكن اختياره لأصدقائه كان
سببًا في هلاكه.
أصدقاء الصديق :كثيرًا
ما رأينا في فترة مكة مجموعات من الأصدقاء تؤمن أو مجموعات من الأصدقاء
تكفر، فالرجل يتأثر بأحبابه وأصحابه، رأينا مثلاً رجلاً عاقلاً ذكيًّا
لبيبًا مثل خالد بن الوليد يتأخر الإسلام عشرين سنة كاملة، فمَنْ أصحابه المقربون؟
عمرو بن العاص ،
ظل أيضًا عشرين سنة كافرًا، وعثمان بن أبي طلحة ظل أيضًا كافرًا عشرين
سنة، والثلاثة من أصحاب الذكاء والفطنة والمروءة والنجدة، لكن اجتمعوا على
باطل، فأضل كل واحد منهم صاحبيه، وتعاهدوا على ذلك، ثم سبحان الله بعد
السنوات الطوال، يدخل الإيمان تدريجيًّا في قلب أحدهم فيسري بسهولة إلى
الآخر، ثم إلى الثالث، ثم إذا بهم يذهبون للإسلام على يد الرسول
في يوم واحد في السنة السابعة للهجرة، وذلك ليثبتوا قيمة الصحبة، وقيمة
الأخلاء فلما كانوا على الكفر تعاهدوا عليه، ولما أشرف الإيمان في قلوبهم
أيضًا تعاهدوا عليه.
مثال آخر: هو أبو البَختري بن هشام، وكان من المشركين، لكنه لم يكن يؤذي رسول الله ، بل على العكس كان من الذين قاموا لنقض صحيفة المقاطعة المشهورة، ولكونه كف الأذى عن رسول الله ، فإن رسول الله نهى عن قتله يوم بدر، فقابله أحد الصحابة المجذر بن زياد البلوي، فوجده يقاتل بجوار صديق له، فقال: يا أبا البختري، إن رسول الله قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك. فقال: والله لأموتن أنا وهو جميعًا.
ثم
اقتتلا فاضطر، المجذر إلى قتله، فهذه صداقة كافرة قادتهما إلى موت على
كفر، ولو لم تكن الصداقة لنجا أبو البختري، ولكن اختياره لأصدقائه كان
سببًا في هلاكه.
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
صاحبه الأول حتى قبل الإسلام كان رسول الله ، وكفى به صاحبًا، ثم أصحابه الآخرون عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله،
وغيرهم من أبطال الإسلام، هؤلاء هم أصحابه قبل الإسلام، إذن رجل أحاط نفسه
بدائرة من أصحاب كهؤلاء، لا بد وأن يسهل عليه أمر الإيمان، ولو صاحب
الأراذل من الناس لصدوه عن الفضائل، روى البخاري ومسلم، عن أبي موسى
الأشعري قال: قال رسول الله : "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
صاحبه الأول حتى قبل الإسلام كان رسول الله ، وكفى به صاحبًا، ثم أصحابه الآخرون عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله،
وغيرهم من أبطال الإسلام، هؤلاء هم أصحابه قبل الإسلام، إذن رجل أحاط نفسه
بدائرة من أصحاب كهؤلاء، لا بد وأن يسهل عليه أمر الإيمان، ولو صاحب
الأراذل من الناس لصدوه عن الفضائل، روى البخاري ومسلم، عن أبي موسى
الأشعري قال: قال رسول الله : "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
رد: أبو بكر الصديق رضى الله عنه
سابع عشر :
من الصفات الذميمة التي كثيرًا ما صدت
أقوامًا عن دعوة الإسلام صفة الجَدَل، والجدل لا يهلك الأفراد فقط، بل يهلك
الأمم، والمجادلون قوم فتنوا بعقولهم، فآثروا أن يستمروا في حوار لا
ينقطع، غالبًا لا ينبني عليه كثير عمل، ويخرجون من نقطة إلى نقطة، ويناقشون
من زاوية، ثم إلى زاوية أخرى، وليس في العزم اتباع الحق، وليس في النية
الاهتداء إلى سواء السبيل، اقرأ وصف القرآن للمجادلين من أهل قريش: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وصورة أخرى من الجدل:
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا *
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ
إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ
قَرِيبًا} [الإسراء: 49، 50].
صورة أخرى عقيمة من الجدل:
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 90- 93].
صورة مكررة من الجدل والنقاش والحوار ليس من ورائها طائل، وحتى لو تحقق ما يطلبون، فسيأتون بشبهة جديدة وسؤال عقيم آخر:
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15].
وأبو بكر الصديق كما وصفه مقربوه كان سهلاً لينًا هينًا، كان
قليل الجدل، قليل السؤال، بل قليل الكلام، كان يضع أحيانًا حصاة في فيه،
فإذا أراد أن يتكلم رفعها ليتكلم، وذلك حتى لا يتكلم كلما اشتهى الكلام، بل
يفكر أولاً، ما إن عُرض عليه الإسلام حتى قال لرسول الله :
والله ما جربت عليك كذبًا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك لرحمك،
وحسن فعالك، مد يدك فإني مبايعك، وموقفه في حادث الإسراء موقف لا ينسى،
مواقفه جميعًا
كانت مبرأة من الجدل والمراء، فسَلِم وسلمت خطواته، وهكذا فالجدل من
الصفات الذميمة التي تصد كثيرًا من الخلق عن طريق الهداية، وهي رسالة إلى
كل الداعين إلى الله، أن اختبر من تدعوه فإن كان ممن تمرسوا على الجدال،
ورغبوا فيه، فكن كأبي بكر الصديق ، وكن كعباد الرحمن الذين وصفهم الله : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63].
ثامن عشر :أقوامًا عن دعوة الإسلام صفة الجَدَل، والجدل لا يهلك الأفراد فقط، بل يهلك
الأمم، والمجادلون قوم فتنوا بعقولهم، فآثروا أن يستمروا في حوار لا
ينقطع، غالبًا لا ينبني عليه كثير عمل، ويخرجون من نقطة إلى نقطة، ويناقشون
من زاوية، ثم إلى زاوية أخرى، وليس في العزم اتباع الحق، وليس في النية
الاهتداء إلى سواء السبيل، اقرأ وصف القرآن للمجادلين من أهل قريش: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وصورة أخرى من الجدل:
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا *
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ
إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ
قَرِيبًا} [الإسراء: 49، 50].
صورة أخرى عقيمة من الجدل:
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 90- 93].
صورة مكررة من الجدل والنقاش والحوار ليس من ورائها طائل، وحتى لو تحقق ما يطلبون، فسيأتون بشبهة جديدة وسؤال عقيم آخر:
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15].
وأبو بكر الصديق كما وصفه مقربوه كان سهلاً لينًا هينًا، كان
قليل الجدل، قليل السؤال، بل قليل الكلام، كان يضع أحيانًا حصاة في فيه،
فإذا أراد أن يتكلم رفعها ليتكلم، وذلك حتى لا يتكلم كلما اشتهى الكلام، بل
يفكر أولاً، ما إن عُرض عليه الإسلام حتى قال لرسول الله :
والله ما جربت عليك كذبًا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك لرحمك،
وحسن فعالك، مد يدك فإني مبايعك، وموقفه في حادث الإسراء موقف لا ينسى،
مواقفه جميعًا
كانت مبرأة من الجدل والمراء، فسَلِم وسلمت خطواته، وهكذا فالجدل من
الصفات الذميمة التي تصد كثيرًا من الخلق عن طريق الهداية، وهي رسالة إلى
كل الداعين إلى الله، أن اختبر من تدعوه فإن كان ممن تمرسوا على الجدال،
ورغبوا فيه، فكن كأبي بكر الصديق ، وكن كعباد الرحمن الذين وصفهم الله : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63].
البخل
والشح من الصفات التي تبتعد بصاحبها عن دعوة الإسلام، الرجل الشحيح يعلم
أن هذه الدعوة الجديدة ستحتاج إلى حماية ورعاية وتضحية وإنفاق، وهو لذلك
يفكر ألف مرة، قبل أن يرتبط بهذه الدعوة، ولذلك فالشح قد يؤدي بالرجل إلى
التهلكة، وتكون التهلكة باستبداله بغيره:{هَاأَنْتُمْ
هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ
الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38], بل إن الشح قد يهلك أمة، روى الإمام مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : "اتَّقُوا
الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا
الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ
عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهَمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".
فالشح قد صد اليهود مثلاً عن الإيمان بهذا الدين: {لَقَدْ
سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
قالوا هذا القول الفاحش لما سمعوا قول الله : {مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
هم جُبِلوا على التضحية بكل شيء في سبيل المال، فكيف يرتبطون بدعوة تدعو إلى جهاد بالنفس والمال؟!
أمـا أبو بكر الصديق فقد كان مجبولاً على حب الإنفاق، وعلى حب العطاء، وليس في الإسلام بعد رسول الله من هو أكرم من أبي بكر الصديق ، ومواقفه في ذلك لا تحصى ولا تعد.
وكان هذا العطاء قبل وبعد الإسلام، وقبل وبعد الهجرة، وقبل وبعد وفاة رسول الله ،
وقبل وبعد استخلافه، وحتى آخر لحظة في حياته، رجل جُبِل على الكرم، وهذا
الصنف من الرجال لا تكفيه الاستجابة فقط لدعوات الخير، بل يسعى ويكد
ويجتهد، حتى يرتبط بمثل هذه الدعوات.
تاسع عشر :والشح من الصفات التي تبتعد بصاحبها عن دعوة الإسلام، الرجل الشحيح يعلم
أن هذه الدعوة الجديدة ستحتاج إلى حماية ورعاية وتضحية وإنفاق، وهو لذلك
يفكر ألف مرة، قبل أن يرتبط بهذه الدعوة، ولذلك فالشح قد يؤدي بالرجل إلى
التهلكة، وتكون التهلكة باستبداله بغيره:{هَاأَنْتُمْ
هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ
الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38], بل إن الشح قد يهلك أمة، روى الإمام مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : "اتَّقُوا
الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا
الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ
عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهَمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".
فالشح قد صد اليهود مثلاً عن الإيمان بهذا الدين: {لَقَدْ
سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
قالوا هذا القول الفاحش لما سمعوا قول الله : {مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
هم جُبِلوا على التضحية بكل شيء في سبيل المال، فكيف يرتبطون بدعوة تدعو إلى جهاد بالنفس والمال؟!
أمـا أبو بكر الصديق فقد كان مجبولاً على حب الإنفاق، وعلى حب العطاء، وليس في الإسلام بعد رسول الله من هو أكرم من أبي بكر الصديق ، ومواقفه في ذلك لا تحصى ولا تعد.
وكان هذا العطاء قبل وبعد الإسلام، وقبل وبعد الهجرة، وقبل وبعد وفاة رسول الله ،
وقبل وبعد استخلافه، وحتى آخر لحظة في حياته، رجل جُبِل على الكرم، وهذا
الصنف من الرجال لا تكفيه الاستجابة فقط لدعوات الخير، بل يسعى ويكد
ويجتهد، حتى يرتبط بمثل هذه الدعوات.
دعوة
الإسلام هي دعوة لكل الأجيال والأعمار، هي دعوة للصغير والكبير والشاب
والشيخ، لكن مما لا شك فيه أن أنسب الأعمار لتحقق الإجابة هي الفترة
المتأخرة في سن الشباب، أقصد فترة الثلاثينات من العمر وأحيانًا العشرينات
من العمر، وذلك أن الشيخ الكبير يكون مطبوعًا على عقائد معينة، وأفكار خاصة
من الصعب أن تغيرها، وأحيانًا يعتاد أشياء خاطئة، ثم يعلم أنها خاطئة فلا
يستطيع تصحيحها، وهذا واقع نشاهده وندركه، والشاب الصغير كثيرًا ما يكون
طائشًا في تصرفاته، متسرعًا في أحكامه، تنقصه الخبرة اللازمة، والرأي
الحكيم، ثم إنه قد يكون ملتفتًا إلى شهواته، وملذاته، منصرفًا عن من ينغص
عليه هذه الشهوات والملذات، وفوق ذلك فإنه في الغالب ما يكون تابعًا لرأي
والده وعائلته، وبالذات في المجتمع القبلي المعتز بالآباء والأجداد..
أما
الرجل البالغ في متوسط العمر فإنه قد تجاوز مرحلة الطيش والشهوات
والاتباع، وأصبح يقود نفسه وعائلته، وتكون قد حنكته التجارب فيحكم الرأي،
ويصيبه، ومن الناحية الأخرى فهو لم يبلغ من العمر أرذله بحيث تصده السنوات
الطوال عن التغيير والإصلاح، أبو بكر الصديق أسلم وهو في الثامنة والثلاثين
من العمر وكان رسول الله
في الأربعين من العمر، وهو سن يجمع بين كل الخير، ففيه حماسة الشباب
وطاقتهم، وفيه أيضًا حكمة الشيوخ وخبرتهم، فلم يكن عجيبًا أن يأخذ قرارًا
هامًّا مثل قرار دخول الإسلام إذا رأى فيه خيرًا، دون انتظار لرؤية والد أو
كبير، يظهر هذا في حواره مع أبيه بعد ذلك..
وقد أسلم الابن أبو بكر
الصديق، وظل الوالد فترة كبيرة دون إسلام، فمع اختلاف العقيدة لم يكن الأب
يلوم عليه كثيرًا في إسلامه، ولم يكن يعنفه أو يعذبه، مثلما فعلت القبائل
الأخرى مع شبابها، بل كان يبادله الرأي، وينصحه، فمثلاً ينصحه مرة أن يعتق
الرجال الأشداء من العبيد بدلاً من إعتاق الضعفاء حتى يحمونه، ومرة ينصحه
بترك مال للأولاد، ولا ينفقه كله في سبيل الله، نعم وجهات نظر مختلفة عن
وجهة نظر الصديق ،
لكنه لم يكن يفرض عليه رأيًا، أو يجبره على فعل، فقد صار الصديق رجلاً
حكيمًا عاقلاً، قد يحتاج إلى مشورة، ولكنه لا يحتاج إلى إكراه أو إرغام،
وسبحان الله، فإن سن الأربعين هذا هو غاية النضج والرشد، وفيه تكتمل جميع
الطاقات، ويصبح الإنسان قادرًا على التفكر والتدبر والرجوع إلى الصواب،
والاستقامة على المناهج السليمة، وقد بين الله ذلك في كتابه عندما قال: {حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
بلوغ الأشد، وهذا الكلام العاقل الرزين، وهذه العودة إلى الله أقرب ما تكون عند سن الأربعين وما حولها، يقول ابن كثير: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] أي: تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه.
وأبو
بكر لم يختر أن تنزل الرسالة، وهو في سن الثامنة والثلاثين قريبًا من
الأربعين، ولكن الله اختار ذلك، فكما صنع محمدًا على عينه سبحانه، وهيأه
للرسالة، وهو في الأربعين من عمره، فإن الله أيضًا اصطفى من الخلق من يصلح
أن يكون صاحبًا لهذا الرسول، وخليفة من بعده، فهيأه منذ خلق، وولد؛ ليكون
في هذا العمر وقت نزول الرسالة {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].
عشرون والأخيرة :الإسلام هي دعوة لكل الأجيال والأعمار، هي دعوة للصغير والكبير والشاب
والشيخ، لكن مما لا شك فيه أن أنسب الأعمار لتحقق الإجابة هي الفترة
المتأخرة في سن الشباب، أقصد فترة الثلاثينات من العمر وأحيانًا العشرينات
من العمر، وذلك أن الشيخ الكبير يكون مطبوعًا على عقائد معينة، وأفكار خاصة
من الصعب أن تغيرها، وأحيانًا يعتاد أشياء خاطئة، ثم يعلم أنها خاطئة فلا
يستطيع تصحيحها، وهذا واقع نشاهده وندركه، والشاب الصغير كثيرًا ما يكون
طائشًا في تصرفاته، متسرعًا في أحكامه، تنقصه الخبرة اللازمة، والرأي
الحكيم، ثم إنه قد يكون ملتفتًا إلى شهواته، وملذاته، منصرفًا عن من ينغص
عليه هذه الشهوات والملذات، وفوق ذلك فإنه في الغالب ما يكون تابعًا لرأي
والده وعائلته، وبالذات في المجتمع القبلي المعتز بالآباء والأجداد..
أما
الرجل البالغ في متوسط العمر فإنه قد تجاوز مرحلة الطيش والشهوات
والاتباع، وأصبح يقود نفسه وعائلته، وتكون قد حنكته التجارب فيحكم الرأي،
ويصيبه، ومن الناحية الأخرى فهو لم يبلغ من العمر أرذله بحيث تصده السنوات
الطوال عن التغيير والإصلاح، أبو بكر الصديق أسلم وهو في الثامنة والثلاثين
من العمر وكان رسول الله
في الأربعين من العمر، وهو سن يجمع بين كل الخير، ففيه حماسة الشباب
وطاقتهم، وفيه أيضًا حكمة الشيوخ وخبرتهم، فلم يكن عجيبًا أن يأخذ قرارًا
هامًّا مثل قرار دخول الإسلام إذا رأى فيه خيرًا، دون انتظار لرؤية والد أو
كبير، يظهر هذا في حواره مع أبيه بعد ذلك..
وقد أسلم الابن أبو بكر
الصديق، وظل الوالد فترة كبيرة دون إسلام، فمع اختلاف العقيدة لم يكن الأب
يلوم عليه كثيرًا في إسلامه، ولم يكن يعنفه أو يعذبه، مثلما فعلت القبائل
الأخرى مع شبابها، بل كان يبادله الرأي، وينصحه، فمثلاً ينصحه مرة أن يعتق
الرجال الأشداء من العبيد بدلاً من إعتاق الضعفاء حتى يحمونه، ومرة ينصحه
بترك مال للأولاد، ولا ينفقه كله في سبيل الله، نعم وجهات نظر مختلفة عن
وجهة نظر الصديق ،
لكنه لم يكن يفرض عليه رأيًا، أو يجبره على فعل، فقد صار الصديق رجلاً
حكيمًا عاقلاً، قد يحتاج إلى مشورة، ولكنه لا يحتاج إلى إكراه أو إرغام،
وسبحان الله، فإن سن الأربعين هذا هو غاية النضج والرشد، وفيه تكتمل جميع
الطاقات، ويصبح الإنسان قادرًا على التفكر والتدبر والرجوع إلى الصواب،
والاستقامة على المناهج السليمة، وقد بين الله ذلك في كتابه عندما قال: {حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
بلوغ الأشد، وهذا الكلام العاقل الرزين، وهذه العودة إلى الله أقرب ما تكون عند سن الأربعين وما حولها، يقول ابن كثير: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] أي: تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه.
وأبو
بكر لم يختر أن تنزل الرسالة، وهو في سن الثامنة والثلاثين قريبًا من
الأربعين، ولكن الله اختار ذلك، فكما صنع محمدًا على عينه سبحانه، وهيأه
للرسالة، وهو في الأربعين من عمره، فإن الله أيضًا اصطفى من الخلق من يصلح
أن يكون صاحبًا لهذا الرسول، وخليفة من بعده، فهيأه منذ خلق، وولد؛ ليكون
في هذا العمر وقت نزول الرسالة {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].
إذا
توافقت بعض صفات الفرد مع فرد آخر، فإنه ينشأ نوع من التجاذب بين الفردين،
وكلما زادت التوافق كلما ازداد التجاذب، حتى يصل إلى حد أن يكون الفردان
روحًا واحدة في جسدين، فيفرح أحدهما فرحًا حقيقيًا لفرح الآخر، ويحزن
أحدهما حزنًا حقيقيًا لحزن الآخر، ويألم أحدهما حقيقة لألم الآخر، حالة
كهذه تفسر أن يقتنع رجل برأي رجل آخر، بل يدافع عنه إلى نهاية المطاف، مع
كون هذا الرأي محارَبًا من عامة الناس، ذلك أنه أصبح دون تكلف، ولا افتعال
كرأيه تمامًا، ولا أحسب أن رجلاً في أمة الإسلام كان شديد الشبه برسول الله
أكثر من أبي بكر الصديق ، وبالطبع فالمقصود هو الشبه في الأخلاق والأفعال لا في الصور والأجساد..
ألا يلفت الأنظار أن الصفة الرئيسية التي اشتهر بها رسول الله في مكة قبل البعثة وبعدها هي صفة الصدق، والأمانة، فعُرف بالصادق الأمين، ثم تجد أن الصفة الرئيسية التي اشتهر بها أبو بكر الصديق
هي أيضًا صفة الصدق حتى عرف بالصديق، بل كان عمله في الجاهلية كما سيأتي
شرحه إن شاء الله هو ضمان الديات والمغارم، وهو عمل يحتاج إلى صدق وأمانة،
ألا يلفت هذا الأنظار إلى شخصيتين متقاربين جدًا، حتى في غلبة صفة معينة
على لقبهم الذي يشتهران به، فيعرف هذا بالصادق الأمين، وهذا بالصديق، بل
أعجب من ذلك، لما نزل الوحي على الرسول الكريم ، عاد مذعورًا إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده وهو يقول: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي".
ثم أخبر خديجة بالخبر، وقال لها: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فقالت خديجة رضي الله عنها وأرضاها:
"كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا". ثم بدأت تصف رسول الله فماذا قالت؟ قالت: "إنك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
هذه هي المبررات التي قالت من أجلها السيدة خديجة إن الله لا يخزي الرسول ، وهي جميعًا صفات تختص بعلاقة الرسول بالمجتمع الخارجي، وعلاقاته بالناس، وهي أساس الدين.
احفظ
هذا الموقف، وتعال نراجع ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل
أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجرًا إلى الحبشة، فقال أبو بكر: أخرجني
قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي.
هنا قال ابن الدغنة: فإن
مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله. لماذا في رأي ابن الدغنة لا يجب أن
يخرج ولا يخرج رجل مثل أبي بكر؟ يبرر ذلك فيقول: "إنك تكسب المعدوم، وتصل
الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
سبحان الله، نفس الخمس صفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله ، هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيرًا سرعة تلبية الصديق لدعوة الإسلام، فالدعوة وكأنها أنزلت عليه لا على رسول الله ، وحركته لها ستكون في حماسة قريبة جدًّا من حماسة الرسول ، ولا نجد شخصًا فيه هذا التوافق مع رسول الله كالذي كان بين الصاحبين الجليلين مما يؤكد أن الله كما اختار محمد للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.
ثم من فضل الله على الأمة أن استخلف أبو بكر بعد رسول الله ، فكان امتدادًا طبيعيًّا جدًّا لرسول الله ، ومع عظم الخطب بوفاة الرسول إلا أن الاستخلاف بالصديق هون كثيرًا من المصيبة على المسلمين.
إذن نقول: إن موانع الاستجابة لدعوة الإسلام لم تكن موجودة عند الصديق ،
بل على العكس كانت لديه دوافع كثيرة لسرعة التلبية، عددنا منها عشرين
أمرًا، ولعل هناك أكثر من ذلك، والأمر مفتوح للبحث؛ لأن الحدث كبير، ويحتاج
إلى وقفات كثيرة، وتحليلات أكثر.
كانت هذه الفقرة السابقة بكاملها، وهي فقرة سبقه إلى الإسلام عبارة عن نقطة من النقاط التي تثبت الصفة الثالثة من صفات الصديق
الأساسية التي نتحدث عنها، وهي صفة السبق والحسم وعدم التسويف، وإن كان
السبق إلى الإسلام حدثًا هامًا لا يغفل، فالسبق في حياة الصديق
كان علامة مميزة له في كثير من المواقف الأخرى، بل لعله كان حريصًا ألا
يُسبق في أي مجال من مجالات الحياة، تشعر وأنت تقرأ سيرته أنه قد اتخذ في
حياته شعارًا واضحًا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
فكأنه وأرضاه دائم العجلة إلى الله .
نذكر هنا بعض الأمثلة الأخرى التي تساعد في فهم معنى السبق في حياة الصديق ، وإن كان من المستحيل حصر كل الأمثلة في حياته، فهي حياته كلها:
سبقه إلى الاطمئنان على إيمانه :توافقت بعض صفات الفرد مع فرد آخر، فإنه ينشأ نوع من التجاذب بين الفردين،
وكلما زادت التوافق كلما ازداد التجاذب، حتى يصل إلى حد أن يكون الفردان
روحًا واحدة في جسدين، فيفرح أحدهما فرحًا حقيقيًا لفرح الآخر، ويحزن
أحدهما حزنًا حقيقيًا لحزن الآخر، ويألم أحدهما حقيقة لألم الآخر، حالة
كهذه تفسر أن يقتنع رجل برأي رجل آخر، بل يدافع عنه إلى نهاية المطاف، مع
كون هذا الرأي محارَبًا من عامة الناس، ذلك أنه أصبح دون تكلف، ولا افتعال
كرأيه تمامًا، ولا أحسب أن رجلاً في أمة الإسلام كان شديد الشبه برسول الله
أكثر من أبي بكر الصديق ، وبالطبع فالمقصود هو الشبه في الأخلاق والأفعال لا في الصور والأجساد..
ألا يلفت الأنظار أن الصفة الرئيسية التي اشتهر بها رسول الله في مكة قبل البعثة وبعدها هي صفة الصدق، والأمانة، فعُرف بالصادق الأمين، ثم تجد أن الصفة الرئيسية التي اشتهر بها أبو بكر الصديق
هي أيضًا صفة الصدق حتى عرف بالصديق، بل كان عمله في الجاهلية كما سيأتي
شرحه إن شاء الله هو ضمان الديات والمغارم، وهو عمل يحتاج إلى صدق وأمانة،
ألا يلفت هذا الأنظار إلى شخصيتين متقاربين جدًا، حتى في غلبة صفة معينة
على لقبهم الذي يشتهران به، فيعرف هذا بالصادق الأمين، وهذا بالصديق، بل
أعجب من ذلك، لما نزل الوحي على الرسول الكريم ، عاد مذعورًا إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده وهو يقول: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي".
ثم أخبر خديجة بالخبر، وقال لها: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فقالت خديجة رضي الله عنها وأرضاها:
"كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا". ثم بدأت تصف رسول الله فماذا قالت؟ قالت: "إنك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
هذه هي المبررات التي قالت من أجلها السيدة خديجة إن الله لا يخزي الرسول ، وهي جميعًا صفات تختص بعلاقة الرسول بالمجتمع الخارجي، وعلاقاته بالناس، وهي أساس الدين.
احفظ
هذا الموقف، وتعال نراجع ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل
أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجرًا إلى الحبشة، فقال أبو بكر: أخرجني
قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي.
هنا قال ابن الدغنة: فإن
مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله. لماذا في رأي ابن الدغنة لا يجب أن
يخرج ولا يخرج رجل مثل أبي بكر؟ يبرر ذلك فيقول: "إنك تكسب المعدوم، وتصل
الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
سبحان الله، نفس الخمس صفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله ، هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيرًا سرعة تلبية الصديق لدعوة الإسلام، فالدعوة وكأنها أنزلت عليه لا على رسول الله ، وحركته لها ستكون في حماسة قريبة جدًّا من حماسة الرسول ، ولا نجد شخصًا فيه هذا التوافق مع رسول الله كالذي كان بين الصاحبين الجليلين مما يؤكد أن الله كما اختار محمد للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.
ثم من فضل الله على الأمة أن استخلف أبو بكر بعد رسول الله ، فكان امتدادًا طبيعيًّا جدًّا لرسول الله ، ومع عظم الخطب بوفاة الرسول إلا أن الاستخلاف بالصديق هون كثيرًا من المصيبة على المسلمين.
إذن نقول: إن موانع الاستجابة لدعوة الإسلام لم تكن موجودة عند الصديق ،
بل على العكس كانت لديه دوافع كثيرة لسرعة التلبية، عددنا منها عشرين
أمرًا، ولعل هناك أكثر من ذلك، والأمر مفتوح للبحث؛ لأن الحدث كبير، ويحتاج
إلى وقفات كثيرة، وتحليلات أكثر.
كانت هذه الفقرة السابقة بكاملها، وهي فقرة سبقه إلى الإسلام عبارة عن نقطة من النقاط التي تثبت الصفة الثالثة من صفات الصديق
الأساسية التي نتحدث عنها، وهي صفة السبق والحسم وعدم التسويف، وإن كان
السبق إلى الإسلام حدثًا هامًا لا يغفل، فالسبق في حياة الصديق
كان علامة مميزة له في كثير من المواقف الأخرى، بل لعله كان حريصًا ألا
يُسبق في أي مجال من مجالات الحياة، تشعر وأنت تقرأ سيرته أنه قد اتخذ في
حياته شعارًا واضحًا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
فكأنه وأرضاه دائم العجلة إلى الله .
نذكر هنا بعض الأمثلة الأخرى التي تساعد في فهم معنى السبق في حياة الصديق ، وإن كان من المستحيل حصر كل الأمثلة في حياته، فهي حياته كلها:
حرصه،
وسبقه، وحسمه في الاطمئنان على صدق إيمانه، وعلى عقيدته، وهذا كلام قد
يتعجب له الكثير، قد نفهم أن نعرض قضية سرعة إسلامه للمناقشة؛ لغرابتها،
ولكن الجميع يعلم أنه منذ أن أسلم وهو أعلى الصحابة إيمانًا وأمنتهم عقيدة،
فكيف يسارع إلى الاطمئنان على عقيدته وإيمانه، هل من الممكن أن يشك أحد في
هذا الإيمان، وفي هذه العقيدة، اسمع إلى هذه القصة العجيبة:
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي ربعي حنظلة بن ربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب الرسول قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟
فالصديق يطمئن على حال حنظلة بسؤال عادي: كيف أنت؟ لكن حنظلة فاجأ الصديق بإجابة غير عادية، إجابة غريبة، قال: نافق حنظلة. نافق حنظلة؟!
حنظلة من الرجال المشهود لهم بالإيمان، فكيف يقول ذلك عن نفسه، تعجب الصديق ، وسارع يقول: سبحان الله، ما تقول؟
فبدأ حنظلة يفسر كلماته العجيبة وقال: نكون عند رسول الله يذكرنا بالجنة، والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا.
يقصد أنهم في مجلس رسول الله
يتأثرون كثيرًا بالكلام عن الجنة والنار، حتى وكأنهم يرونها عيانًا
بيانًا، ومن المؤكد وهم في هذه الحالة يعتزمون أن لا يفعلوا شيئًا في
حياتهم إلا أفعال الآخرة فقط، ينوون أن يخرجوا، فيفردون الأوقات الطويلة في
الصلاة والقرآن والقيام والدعوة والجهاد وغير ذلك، ويصبحون في حالة زهد
تام في الدنيا وقناعها، لكن سبحان الله إذا خرجوا من عند رسول الله
اختلطوا بأمور الحياة الطبيعية، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني
لاعبنا وتعاملنا مع الأزواج، والأولاد، والمعايش المختلفة، عند هذه الحالة
الأخيرة ينسون كثيرًا مما سمعوه من الرسول الكريم ، هذا التباين في حالتهم في مجلس العلم، وحالتهم في معترك الحياة العامة عده حنظلة نفاقًا..
وهذه
ولا شك حساسية مفرطة وتحرٍ عميق لقضية الإيمان، وكان من المتوقع من أبي
بكر الصديق الذي يزن إيمانه إيمان أمة أن يهون الأمر على حنظلة، ويوضح له
أن ذلك يعتبر شيئًا طبيعيًّا، فمن المستحيل على المرء أن يظل على حالة
إيمانية مرتفعة جدًّا دون هبوط، ولو قليل، كان من المتوقع من هذا الصديق
الذي لا يشك أحد في إيمانه، والمبشر بالجنة تصريحًا والمقدم على غيره
دائمًا، كان من المتوقع منه أن يحادثه في قضية الإيمان برباطة جأش، وثبات
قدم، لكن الصديق رجل المفاجآت ،
وقف يحاسب نفسه بسرعة، عقله لا يتوقف عن مساءلة نفسه، وقلبه لا يطمئن على
عظيم إيمانه، حاسب نفسه بصراحة ووضوح فكانت المفاجأة العظمى أن قال: فوالله
إنا لنلقى مثل هذا.
سبحان الله، أبو بكر الصديق المشهود له بالإيمان من رسول الله ، بل ليس إيمانًا عاديًّا، بل إيمان كإيمان أمة، أو يزيد، والمشهود له بالتقوى من الله ، حيث قال في حقه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17].
يقصد
أبا بكر، هذا الرجل يجد في نفسه هذا الأمر الذي خشي أن يكون نفاقًا، ومع
أن الخاطر عجيب ومع أن الهاجس غريب، ومع أنه من الطبيعي تمامًا لرجل في
مكانته أن يطرد هذه الأفكار بسرعة، إلا أن الصديق ليس كذلك، الصديق يسبق
إلى الاطمئنان على إيمانه، فإذا به يسارع مع حنظلة إلى رسول الله للاطمئنان على قضية الإيمان، يقول حنظلة : فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على الرسول هنا سارع حنظلة يقول: نافق حنظلة يا رسول الله. فتعجب رسول الله وقال: "وَمَا ذَاكَ؟",
قال حنظلة: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، كأنا رأي
العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا
كثيرًا.
هنا يتكلم الطبيب الماهر، والحكيم العظيم رسول الله وكأني ألحظ على وجهه ابتسامة رقيقة وبشرًا في أساريره وحنانًا في صوته بأبي هو وأمي، وهو يقول في هدوء وتؤدة: "والَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي
الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكِمْ وَفِي
طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً". ثلاث مرات.
ومن المفهوم يقينًا أن رسول الله
لا يقصد ساعة طاعة وساعة معصية كما يفهم كثير من الجهال أن هناك ساعة لله،
وساعة يخرجون فيها عن منهجه وشرعه، لكن المقصود هو ساعة تفرغ وخلوة
واجتهاد في الطاعة، وساعة أخرى تفرغ لأمور الدنيا الحلال، والذي يطالب
الإنسان بها أيضًا في شرع الله كرعاية الأزواج والأولاد، ومتابعة أسباب
الرزق واللهو الحلال، والنوم الذي لا يضيع صلاة، وغير ذلك من أمور الحياة
المختلفة.
الشاهد اللطيف في القصة هو حرص الصديق على قضية الإيمان مع أنه كان من الممكن أن ينتظر حتى يرى رسول الله في صلاة من الصلوات، لكنه سارع إليه مطبقًا شعاره: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
سبقه إلى الدعوة :وسبقه، وحسمه في الاطمئنان على صدق إيمانه، وعلى عقيدته، وهذا كلام قد
يتعجب له الكثير، قد نفهم أن نعرض قضية سرعة إسلامه للمناقشة؛ لغرابتها،
ولكن الجميع يعلم أنه منذ أن أسلم وهو أعلى الصحابة إيمانًا وأمنتهم عقيدة،
فكيف يسارع إلى الاطمئنان على عقيدته وإيمانه، هل من الممكن أن يشك أحد في
هذا الإيمان، وفي هذه العقيدة، اسمع إلى هذه القصة العجيبة:
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي ربعي حنظلة بن ربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب الرسول قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟
فالصديق يطمئن على حال حنظلة بسؤال عادي: كيف أنت؟ لكن حنظلة فاجأ الصديق بإجابة غير عادية، إجابة غريبة، قال: نافق حنظلة. نافق حنظلة؟!
حنظلة من الرجال المشهود لهم بالإيمان، فكيف يقول ذلك عن نفسه، تعجب الصديق ، وسارع يقول: سبحان الله، ما تقول؟
فبدأ حنظلة يفسر كلماته العجيبة وقال: نكون عند رسول الله يذكرنا بالجنة، والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا.
يقصد أنهم في مجلس رسول الله
يتأثرون كثيرًا بالكلام عن الجنة والنار، حتى وكأنهم يرونها عيانًا
بيانًا، ومن المؤكد وهم في هذه الحالة يعتزمون أن لا يفعلوا شيئًا في
حياتهم إلا أفعال الآخرة فقط، ينوون أن يخرجوا، فيفردون الأوقات الطويلة في
الصلاة والقرآن والقيام والدعوة والجهاد وغير ذلك، ويصبحون في حالة زهد
تام في الدنيا وقناعها، لكن سبحان الله إذا خرجوا من عند رسول الله
اختلطوا بأمور الحياة الطبيعية، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني
لاعبنا وتعاملنا مع الأزواج، والأولاد، والمعايش المختلفة، عند هذه الحالة
الأخيرة ينسون كثيرًا مما سمعوه من الرسول الكريم ، هذا التباين في حالتهم في مجلس العلم، وحالتهم في معترك الحياة العامة عده حنظلة نفاقًا..
وهذه
ولا شك حساسية مفرطة وتحرٍ عميق لقضية الإيمان، وكان من المتوقع من أبي
بكر الصديق الذي يزن إيمانه إيمان أمة أن يهون الأمر على حنظلة، ويوضح له
أن ذلك يعتبر شيئًا طبيعيًّا، فمن المستحيل على المرء أن يظل على حالة
إيمانية مرتفعة جدًّا دون هبوط، ولو قليل، كان من المتوقع من هذا الصديق
الذي لا يشك أحد في إيمانه، والمبشر بالجنة تصريحًا والمقدم على غيره
دائمًا، كان من المتوقع منه أن يحادثه في قضية الإيمان برباطة جأش، وثبات
قدم، لكن الصديق رجل المفاجآت ،
وقف يحاسب نفسه بسرعة، عقله لا يتوقف عن مساءلة نفسه، وقلبه لا يطمئن على
عظيم إيمانه، حاسب نفسه بصراحة ووضوح فكانت المفاجأة العظمى أن قال: فوالله
إنا لنلقى مثل هذا.
سبحان الله، أبو بكر الصديق المشهود له بالإيمان من رسول الله ، بل ليس إيمانًا عاديًّا، بل إيمان كإيمان أمة، أو يزيد، والمشهود له بالتقوى من الله ، حيث قال في حقه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17].
يقصد
أبا بكر، هذا الرجل يجد في نفسه هذا الأمر الذي خشي أن يكون نفاقًا، ومع
أن الخاطر عجيب ومع أن الهاجس غريب، ومع أنه من الطبيعي تمامًا لرجل في
مكانته أن يطرد هذه الأفكار بسرعة، إلا أن الصديق ليس كذلك، الصديق يسبق
إلى الاطمئنان على إيمانه، فإذا به يسارع مع حنظلة إلى رسول الله للاطمئنان على قضية الإيمان، يقول حنظلة : فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على الرسول هنا سارع حنظلة يقول: نافق حنظلة يا رسول الله. فتعجب رسول الله وقال: "وَمَا ذَاكَ؟",
قال حنظلة: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، كأنا رأي
العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا
كثيرًا.
هنا يتكلم الطبيب الماهر، والحكيم العظيم رسول الله وكأني ألحظ على وجهه ابتسامة رقيقة وبشرًا في أساريره وحنانًا في صوته بأبي هو وأمي، وهو يقول في هدوء وتؤدة: "والَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي
الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكِمْ وَفِي
طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً". ثلاث مرات.
ومن المفهوم يقينًا أن رسول الله
لا يقصد ساعة طاعة وساعة معصية كما يفهم كثير من الجهال أن هناك ساعة لله،
وساعة يخرجون فيها عن منهجه وشرعه، لكن المقصود هو ساعة تفرغ وخلوة
واجتهاد في الطاعة، وساعة أخرى تفرغ لأمور الدنيا الحلال، والذي يطالب
الإنسان بها أيضًا في شرع الله كرعاية الأزواج والأولاد، ومتابعة أسباب
الرزق واللهو الحلال، والنوم الذي لا يضيع صلاة، وغير ذلك من أمور الحياة
المختلفة.
الشاهد اللطيف في القصة هو حرص الصديق على قضية الإيمان مع أنه كان من الممكن أن ينتظر حتى يرى رسول الله في صلاة من الصلوات، لكنه سارع إليه مطبقًا شعاره: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
وسبحان
الله، إن كان عجيبًا سبق الصديق إلى الإسلام، فلعل الأعجب من ذلك سبقه إلى
الدعوة إلى هذا الدين، وحماسه لنشره وحميته لجمع الأنصار له، وسرعته في
تبليغ ما علم من الرسول مع قلة ما علمه.
سَبَق
الصديق إلى الدعوة إلى هذا الدين الجديد، فإذا به يأتي في اليوم الأول
لدعوته بمجموعة من الرجال قَلّ أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل بألف رجل أو
يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة هم:
عثمان بن عفان.
الزبير بن العوام.
سعد بن أبي وقاص.
طلحة بن عبيد الله.
عبد الرحمن بن عوف.
ما
هذا؟! هؤلاء الخمسة، صناديد الإسلام، وعباقرته، أتوا جميعًا على يد
الصديق؟ نعم، صِدْق، فهو الصديق، والحدث عظيم، ويحتاج إلى وقفات، فبتحليل
إسلام هؤلاء الخمسة يزداد المرء عجبًا:
الملحوظة الأولى :الله، إن كان عجيبًا سبق الصديق إلى الإسلام، فلعل الأعجب من ذلك سبقه إلى
الدعوة إلى هذا الدين، وحماسه لنشره وحميته لجمع الأنصار له، وسرعته في
تبليغ ما علم من الرسول مع قلة ما علمه.
سَبَق
الصديق إلى الدعوة إلى هذا الدين الجديد، فإذا به يأتي في اليوم الأول
لدعوته بمجموعة من الرجال قَلّ أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل بألف رجل أو
يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة هم:
عثمان بن عفان.
الزبير بن العوام.
سعد بن أبي وقاص.
طلحة بن عبيد الله.
عبد الرحمن بن عوف.
ما
هذا؟! هؤلاء الخمسة، صناديد الإسلام، وعباقرته، أتوا جميعًا على يد
الصديق؟ نعم، صِدْق، فهو الصديق، والحدث عظيم، ويحتاج إلى وقفات، فبتحليل
إسلام هؤلاء الخمسة يزداد المرء عجبًا:
ليس
من هؤلاء أحد من قبيلة بني تيم إلا طلحة بن عبيد الله فقط، وبقيتهم من
قبائل أخرى فعثمان بن عفان أموي، من بني أمية، والزبير بن العوام من بني
أسد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف
من بني زُهرة، فالاستجابة له لم تكن من باب القبلية، ولكن كما هو واضح كان
له صداقات قوية، وعلاقات وطيدة بكثير من أركان المجتمع المكي قبل الإسلام،
وهذا ولا شك أساس من أسس الدعوة.
الملحوظة الثانية :من هؤلاء أحد من قبيلة بني تيم إلا طلحة بن عبيد الله فقط، وبقيتهم من
قبائل أخرى فعثمان بن عفان أموي، من بني أمية، والزبير بن العوام من بني
أسد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف
من بني زُهرة، فالاستجابة له لم تكن من باب القبلية، ولكن كما هو واضح كان
له صداقات قوية، وعلاقات وطيدة بكثير من أركان المجتمع المكي قبل الإسلام،
وهذا ولا شك أساس من أسس الدعوة.
أن أعمار هذه المجموعة كانت صغيرة جدًّا، وبعيدة عن عمر الصديق، فالزبير بن العوام كان في الخامسة عشر من عمره، ومع ذلك لم يستقله أبو بكر الصديق
وأَسَرّ له بهذا السر الخطير، سِرّ دعوة الإسلام في بلد لا محالة ستحارب
هذه الدعوة، في الخامسة عشر من عمره، هذا يعني أنه في سن ولد في الصف
الثالث الإعدادي في زماننا، يعني الزبير بن العوام أخذ قرار الإسلام وتغيير
الدين ومحاربة أهل مكة جميعًا وهو في الإعدادية، ويبدو أن تربيتنا
لأطفالنا تحتاج إلى إعادة نظر، فكثير منا ينظر إلى ابنه في الجامعة، وبعدها
على إنه صغير لا يتحمل مسئولية، ولا يأخذ قرارًا بمفرده، وطلحة بن عبيد
الله كان أكبر من ذلك قليلاً، وكذلك سعد بن أبي وقاص كان في السابعة عشر من عمره، وعبد الرحمن بن عوف نحو ذلك أيضًا، وكان أكبرهم هو عثمان ن عفان، ويبلغ من العمر آنذاك حوالي الثامنة والعشرين.
إذن
أبو بكر الصديق قبل الإسلام كان له علاقات طيبة مع كل طوائف مكة على
اختلاف قبائلها، وعلى تفاوت أعمارها، وعندما فكر في تبليغ الدعوة بلغها
للشباب من أهل مكة، وبالذات لأولئك الذين اشتهروا بالطهر والعفاف، وحسن
السيرة، فكان لهم بمثابة الأستاذ لتلامذته، سمعوا له، واستجابوا، فكان
خيرًا له ولهم، وللإسلام، والمسلمين، وهي إشارة لكل الدعاة أن يعطوا قدرًا
أكبر وأعظم للشباب، فعلى أكتافهم تقوم الدعوات.
الملحوظة الثالثة :وأَسَرّ له بهذا السر الخطير، سِرّ دعوة الإسلام في بلد لا محالة ستحارب
هذه الدعوة، في الخامسة عشر من عمره، هذا يعني أنه في سن ولد في الصف
الثالث الإعدادي في زماننا، يعني الزبير بن العوام أخذ قرار الإسلام وتغيير
الدين ومحاربة أهل مكة جميعًا وهو في الإعدادية، ويبدو أن تربيتنا
لأطفالنا تحتاج إلى إعادة نظر، فكثير منا ينظر إلى ابنه في الجامعة، وبعدها
على إنه صغير لا يتحمل مسئولية، ولا يأخذ قرارًا بمفرده، وطلحة بن عبيد
الله كان أكبر من ذلك قليلاً، وكذلك سعد بن أبي وقاص كان في السابعة عشر من عمره، وعبد الرحمن بن عوف نحو ذلك أيضًا، وكان أكبرهم هو عثمان ن عفان، ويبلغ من العمر آنذاك حوالي الثامنة والعشرين.
إذن
أبو بكر الصديق قبل الإسلام كان له علاقات طيبة مع كل طوائف مكة على
اختلاف قبائلها، وعلى تفاوت أعمارها، وعندما فكر في تبليغ الدعوة بلغها
للشباب من أهل مكة، وبالذات لأولئك الذين اشتهروا بالطهر والعفاف، وحسن
السيرة، فكان لهم بمثابة الأستاذ لتلامذته، سمعوا له، واستجابوا، فكان
خيرًا له ولهم، وللإسلام، والمسلمين، وهي إشارة لكل الدعاة أن يعطوا قدرًا
أكبر وأعظم للشباب، فعلى أكتافهم تقوم الدعوات.
أنه
بعد أن أتى بهذا الرعيل الأول، وهذا المجهود الوافر، ما فتر حماسه، وما
كلت عزيمته، ولكنه أسرع في الأيام التالية يأتي بغيرهم، أتى بأبي عبيدة بن
الجراح أمين هذه الأمة، وهو من بني الحارث بن فهر، وكان يبلغ من العمر سبعة وعشرون عامًا، وجاء أيضًا بالصحابي الجليل عثمان بن مظعون وهو من بني جمح، ثم أتى بالأرقم بن أبي الأرقم وأبو سلمة بن عبد الأسد وهما من بني مخزوم، وما أدراك ما بنو مخزوم، هي قبيلة تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله ، فكيف أثر عليهما حتى يأتي بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟
هذا أمر لافت للنظر ولا شك، ومن الواضح الجلي أن الصديق
كان قريبًا من قلوبهم إلى درجة أقرب من القبيلة والعنصرية والعصبية وحمية
الجاهلية، وغير ذلك من الدوافع المنتشرة في ذلك الزمان، ومن الجدير بالذكر
أن الأرقم بن أبي الأرقم والذي فتح بعد ذلك بقليل بيته للمسلمين، ولرسول الله
يعقدون فيه لقاءاتهم ويتعلمون فيه دينهم بعيدًا عن عيون مكة، ومعرضًا نفسه
لخطر عظيم وخطب جليل، جدير بالذكر أن هذا البطل المغوار والمغامر الجريء
كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا فقط، ولا تعليق.
الملحوظة الرابعة :بعد أن أتى بهذا الرعيل الأول، وهذا المجهود الوافر، ما فتر حماسه، وما
كلت عزيمته، ولكنه أسرع في الأيام التالية يأتي بغيرهم، أتى بأبي عبيدة بن
الجراح أمين هذه الأمة، وهو من بني الحارث بن فهر، وكان يبلغ من العمر سبعة وعشرون عامًا، وجاء أيضًا بالصحابي الجليل عثمان بن مظعون وهو من بني جمح، ثم أتى بالأرقم بن أبي الأرقم وأبو سلمة بن عبد الأسد وهما من بني مخزوم، وما أدراك ما بنو مخزوم، هي قبيلة تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله ، فكيف أثر عليهما حتى يأتي بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟
هذا أمر لافت للنظر ولا شك، ومن الواضح الجلي أن الصديق
كان قريبًا من قلوبهم إلى درجة أقرب من القبيلة والعنصرية والعصبية وحمية
الجاهلية، وغير ذلك من الدوافع المنتشرة في ذلك الزمان، ومن الجدير بالذكر
أن الأرقم بن أبي الأرقم والذي فتح بعد ذلك بقليل بيته للمسلمين، ولرسول الله
يعقدون فيه لقاءاتهم ويتعلمون فيه دينهم بعيدًا عن عيون مكة، ومعرضًا نفسه
لخطر عظيم وخطب جليل، جدير بالذكر أن هذا البطل المغوار والمغامر الجريء
كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا فقط، ولا تعليق.
أن ستة من الذين دعاهم أبو بكر الصديق للإسلام من العشرة المبشرين بالجنة، وهم صفوة الصحابة وخير الأمة بعد نبيها محمد ،
والآخرون أيضًا من أهل الجنة إن شاء الله فهم من السابقين السابقين، وإن
العقل ليعجز أن يتخيل حجم الثواب الذي حصله أبو بكر الصديق من جراء دعوته
لهؤلاء وغيرهم، فكما قال رسول الله في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة : "مَنْ
دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ
لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى
ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الآثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا
يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا".
وكما قال أيضًا في حديث الإمام مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ".
فتدبر يا عبد الله في أفعال العظماء الذين أتى بهم الصديق ،
تدبر في أعمال عثمان، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وأبي عبيدة،
والأرقم، وأبي سلمة، وعثمان بن مظعون، ثم سيأتي بعدهم آخرون أمثال بلال،
وعامر بن فهيرة، وغيرهم، تدبر في ذلك، وأعلم أن أجور هؤلاء جميعًا، ومن
هداهم الله على أيديهم، كل هذا في ميزان الصديق وأرضاه، حتى تعلم عظم الدعوة إلى الله، وشرف العمل الذي وكله الله للأنبياء ومن سار على نهجهم.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].
تدبر في كل هذا، ثم تدبر في مجهوداتنا لهذا الدين، هذا الصديق أتى بهؤلاء،
وحمل معه أجور هؤلاء، فمَن مِن البشر أتينا به إلى طريق الله، وكم من
الأجور حملنا معنا في ميزاننا، سؤال لا بد أن نقف مع النفس وقفة لإجابة،
ونسأل الله أن يسدد خطانا ويبصرنا بما يصلح ديننا ودنيانا وأخرتنا.
نعود إلى بطلنا الصديق ، ونتساءل لماذا استجيب لدعوته بهذه السرعة؟ ولماذا أحبه قومه لهذه الدرجة؟
اسمع كلام طلحة بن عبيد الله ، وهو يصف أبا بكر الصديق، ولاحظ أن هذا الوصف قاله طلحة بن عبيد الله
يوم إسلامه، قال: وكنت أعرف أبا بكر، فقد كان رجلاً سهلاً محببًا موطأ
الأكناف. أي لين الجانب، فها هي صفة أولى نلاحظها في كلام طلحة ،
فالصديق كان سهلاً محببًا إلى القلوب، كان لينًا مع الناس رفيقًا بهم، كان
حنونًا عطوفًا رحيمًا، ورجل بهذه الصفات لا بد أن يحبه الناس، وصدقت يا
رسول الله وأنت تصف المؤمن فتقول: "الْمُؤْمِنُ مُؤْلَفٌ وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ".
روى ذلك الإمام أحمد عن أبي هريرة ، وروى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ". ونكمل الاستماع إلى وصف طلحة لأبي بكر الصديق : وكان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
وهنا
أيضًا نلاحظ سمات لا بد أن تجذب القلوب لصاحبها، الصديق كان تاجرًا، وكان
كثير الأموال، وكان رجلاً معطاءً، كثير العطاء، والناس بطبعها تحب مجالسة
الرجل الذي ألف العطاء، وألف السخاء، وإن كانوا لا يريدون منه مالاً، فعلى
الأقل هو لن يطلب منهم شيئًا، والناس أيضًا بطبعها تنفر من الذين يطلبون
منهم شيئًا، ويستقرضونهم في كل مناسبة، ومن ثم فلا عجب أن أهل مكة كانوا
يحبون مجلس الصديق ، فوق ذلك يقول طلحة : كان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
والتجارة
والمال الكثير كثيرًا ما يغيران من نفوس الناس، وكثيرًا ما يغش التاجر في
تجارته، ويدلس على زبائنه، وكثيرًا ما يحلف على بضاعته بالكذب ليزداد
ربحًا، والتاجر المستقيم صاحب الخلق لا بد وأن يكون محبوبًا، ولا بد أن
يكون مقربًا لقلوب الناس، وبالتبعية، فإن الله يعظم جدًا من أجر التاجر
المستقيم، روى الترمذي والدارمي وقال الترمذي: حديث حسن. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ".
فإذا كان التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين فما بالك بالتاجر الصِّديق أبي بكر الصديق وأرضاه، ويكمل طلحة بن عبيد الله كلامه عن الصديق فيقول: وكنا نألفه، ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش، وحفظه لأنسابها.
فها
هي صفة جديدة تحبب الناس في الصديق، وكان لها أثرًا في استجابة الناس له،
فالصديق كان عالمًا بالعلم الذي يفيد في زمانه، والعلم الذي يحتاجه أهل
البلد، علم الأنساب كان أعلمهم بالنسب، وهذا أمر بالغ الأهمية في المجتمع المكي القديم، شهد له بذلك رسول الله
في الحديث الذي روته بنت الصديق عائشة رضي الله عنها وجاء في صحيح مسلم أن
أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وفوق علمه بالنسب، فهو كريم الخلق، فلم يطعن
في نسب أحد مهما علم فيه من مثالب ومساوئ، وهذا يجعله، ولا شك محبوبًا
للناس جميعًا، وهي رسالة إلى كل الدعاة أن عليهم أن يتعلموا العلم النافع
الذي يصلح بيئتهم ومجتمعهم، وأن لا يتكبروا بعلمهم على الناس، فذلك -كما
علمنا الصديق- الطريق إلى قلوب العباد.
الملحوظة الخامسة :والآخرون أيضًا من أهل الجنة إن شاء الله فهم من السابقين السابقين، وإن
العقل ليعجز أن يتخيل حجم الثواب الذي حصله أبو بكر الصديق من جراء دعوته
لهؤلاء وغيرهم، فكما قال رسول الله في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة : "مَنْ
دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ
لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى
ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الآثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا
يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا".
وكما قال أيضًا في حديث الإمام مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ".
فتدبر يا عبد الله في أفعال العظماء الذين أتى بهم الصديق ،
تدبر في أعمال عثمان، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وأبي عبيدة،
والأرقم، وأبي سلمة، وعثمان بن مظعون، ثم سيأتي بعدهم آخرون أمثال بلال،
وعامر بن فهيرة، وغيرهم، تدبر في ذلك، وأعلم أن أجور هؤلاء جميعًا، ومن
هداهم الله على أيديهم، كل هذا في ميزان الصديق وأرضاه، حتى تعلم عظم الدعوة إلى الله، وشرف العمل الذي وكله الله للأنبياء ومن سار على نهجهم.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].
تدبر في كل هذا، ثم تدبر في مجهوداتنا لهذا الدين، هذا الصديق أتى بهؤلاء،
وحمل معه أجور هؤلاء، فمَن مِن البشر أتينا به إلى طريق الله، وكم من
الأجور حملنا معنا في ميزاننا، سؤال لا بد أن نقف مع النفس وقفة لإجابة،
ونسأل الله أن يسدد خطانا ويبصرنا بما يصلح ديننا ودنيانا وأخرتنا.
نعود إلى بطلنا الصديق ، ونتساءل لماذا استجيب لدعوته بهذه السرعة؟ ولماذا أحبه قومه لهذه الدرجة؟
اسمع كلام طلحة بن عبيد الله ، وهو يصف أبا بكر الصديق، ولاحظ أن هذا الوصف قاله طلحة بن عبيد الله
يوم إسلامه، قال: وكنت أعرف أبا بكر، فقد كان رجلاً سهلاً محببًا موطأ
الأكناف. أي لين الجانب، فها هي صفة أولى نلاحظها في كلام طلحة ،
فالصديق كان سهلاً محببًا إلى القلوب، كان لينًا مع الناس رفيقًا بهم، كان
حنونًا عطوفًا رحيمًا، ورجل بهذه الصفات لا بد أن يحبه الناس، وصدقت يا
رسول الله وأنت تصف المؤمن فتقول: "الْمُؤْمِنُ مُؤْلَفٌ وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ".
روى ذلك الإمام أحمد عن أبي هريرة ، وروى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ". ونكمل الاستماع إلى وصف طلحة لأبي بكر الصديق : وكان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
وهنا
أيضًا نلاحظ سمات لا بد أن تجذب القلوب لصاحبها، الصديق كان تاجرًا، وكان
كثير الأموال، وكان رجلاً معطاءً، كثير العطاء، والناس بطبعها تحب مجالسة
الرجل الذي ألف العطاء، وألف السخاء، وإن كانوا لا يريدون منه مالاً، فعلى
الأقل هو لن يطلب منهم شيئًا، والناس أيضًا بطبعها تنفر من الذين يطلبون
منهم شيئًا، ويستقرضونهم في كل مناسبة، ومن ثم فلا عجب أن أهل مكة كانوا
يحبون مجلس الصديق ، فوق ذلك يقول طلحة : كان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
والتجارة
والمال الكثير كثيرًا ما يغيران من نفوس الناس، وكثيرًا ما يغش التاجر في
تجارته، ويدلس على زبائنه، وكثيرًا ما يحلف على بضاعته بالكذب ليزداد
ربحًا، والتاجر المستقيم صاحب الخلق لا بد وأن يكون محبوبًا، ولا بد أن
يكون مقربًا لقلوب الناس، وبالتبعية، فإن الله يعظم جدًا من أجر التاجر
المستقيم، روى الترمذي والدارمي وقال الترمذي: حديث حسن. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ".
فإذا كان التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين فما بالك بالتاجر الصِّديق أبي بكر الصديق وأرضاه، ويكمل طلحة بن عبيد الله كلامه عن الصديق فيقول: وكنا نألفه، ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش، وحفظه لأنسابها.
فها
هي صفة جديدة تحبب الناس في الصديق، وكان لها أثرًا في استجابة الناس له،
فالصديق كان عالمًا بالعلم الذي يفيد في زمانه، والعلم الذي يحتاجه أهل
البلد، علم الأنساب كان أعلمهم بالنسب، وهذا أمر بالغ الأهمية في المجتمع المكي القديم، شهد له بذلك رسول الله
في الحديث الذي روته بنت الصديق عائشة رضي الله عنها وجاء في صحيح مسلم أن
أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وفوق علمه بالنسب، فهو كريم الخلق، فلم يطعن
في نسب أحد مهما علم فيه من مثالب ومساوئ، وهذا يجعله، ولا شك محبوبًا
للناس جميعًا، وهي رسالة إلى كل الدعاة أن عليهم أن يتعلموا العلم النافع
الذي يصلح بيئتهم ومجتمعهم، وأن لا يتكبروا بعلمهم على الناس، فذلك -كما
علمنا الصديق- الطريق إلى قلوب العباد.
والصديق
وأرضاه لم يكن حريصًا على أصدقائه ومعارفه على حساب أهل بيته، كثير من
الدعاة ينفقون الساعات الطوال في دعوة الآخرين، ثم هم يقصرون تقصيرًا
شديدًا في دعوة أهل بيتهم، مع أنهم سيسألون عنهم قبل الآخرين، روى البخاري
ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: "كُلُّكُمْ
رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ".
الصديق كان راعيًا في بيته، وكان مسئولا عن رعيته ، أدخل في الإسلام زوجته أم رومان رضي الله عنها، وزوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأدخل أولاده عائشة، وأسماء، وعبد الله أجمعين، ثم ما لبث أن أدخل أمه أيضًا في الإسلام بعد أن طلب من رسول الله
أن يدعو لها بالهداية، وتأخر ابنه عبد الرحمن عن الإسلام كثيرًا فقد أسلم
يوم الحديبية، فشق ذلك على أبي بكر وكان له موقف عجيب معه سيأتي شرحه
لاحقًا إن شاء الله، وتأخر إسلام أبيه أكثر من ذلك، لكن ما نسيه الصديق وأرضاه، حتى كان يوم فتح مكة، فأتى به رسول الله
وكان أبو قحافة أبو أبي بكر الصديق رجلاً مسنًا طاعن في السن حتى قالوا:
كان رأسه ثغامة (والثغامة نبات أبيض يُشَبه به الشيب) فجاء به الصديق إلى رسول الله فقال الرسول الكريم المتواضع : "يَا أَبَا بَكْرٍ هَلاَّ تَرَكْتَهُ حَتَّى نَأْتِيَهُ". فقال أبو بكر في أدب جم: هو أولى أن يأتيك يا رسول الله. فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله ، وفي رواية قال رسول الله : "إِنَّا نَحْفَظُهُ لأَيَادِي ابْنِهِ عِنْدَنَا".
وهكذا فعائلة الصديق كلها مسلمة، بل لم تجتمع الصحبة لرسول الله في أجيال أربعة متعاقبة في عائلة واحدة إلا في عائلة الصديق ، فالجيل الأول هو جيل أبو قحافة وزوجته والدا الصديق ، والجيل الثاني هو الصديق
وزوجاته، والجيل الثالث أولاد الصديق أسماء وعائشة وعبد الله وعبد الرحمن،
والجيل الرابع هم أحفاد الصديق ولهم صحبة مثل عبد الله الزبير بن العوام
ابن السيدة أسماء رضي الله عنها، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر أجمعين، فهذه العائلة المباركة بارك الله فيها، وعمت بركتها على أمة المسلمين جميعًا.
سبقه في كل أعمال الخير :وأرضاه لم يكن حريصًا على أصدقائه ومعارفه على حساب أهل بيته، كثير من
الدعاة ينفقون الساعات الطوال في دعوة الآخرين، ثم هم يقصرون تقصيرًا
شديدًا في دعوة أهل بيتهم، مع أنهم سيسألون عنهم قبل الآخرين، روى البخاري
ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: "كُلُّكُمْ
رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ".
الصديق كان راعيًا في بيته، وكان مسئولا عن رعيته ، أدخل في الإسلام زوجته أم رومان رضي الله عنها، وزوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأدخل أولاده عائشة، وأسماء، وعبد الله أجمعين، ثم ما لبث أن أدخل أمه أيضًا في الإسلام بعد أن طلب من رسول الله
أن يدعو لها بالهداية، وتأخر ابنه عبد الرحمن عن الإسلام كثيرًا فقد أسلم
يوم الحديبية، فشق ذلك على أبي بكر وكان له موقف عجيب معه سيأتي شرحه
لاحقًا إن شاء الله، وتأخر إسلام أبيه أكثر من ذلك، لكن ما نسيه الصديق وأرضاه، حتى كان يوم فتح مكة، فأتى به رسول الله
وكان أبو قحافة أبو أبي بكر الصديق رجلاً مسنًا طاعن في السن حتى قالوا:
كان رأسه ثغامة (والثغامة نبات أبيض يُشَبه به الشيب) فجاء به الصديق إلى رسول الله فقال الرسول الكريم المتواضع : "يَا أَبَا بَكْرٍ هَلاَّ تَرَكْتَهُ حَتَّى نَأْتِيَهُ". فقال أبو بكر في أدب جم: هو أولى أن يأتيك يا رسول الله. فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله ، وفي رواية قال رسول الله : "إِنَّا نَحْفَظُهُ لأَيَادِي ابْنِهِ عِنْدَنَا".
وهكذا فعائلة الصديق كلها مسلمة، بل لم تجتمع الصحبة لرسول الله في أجيال أربعة متعاقبة في عائلة واحدة إلا في عائلة الصديق ، فالجيل الأول هو جيل أبو قحافة وزوجته والدا الصديق ، والجيل الثاني هو الصديق
وزوجاته، والجيل الثالث أولاد الصديق أسماء وعائشة وعبد الله وعبد الرحمن،
والجيل الرابع هم أحفاد الصديق ولهم صحبة مثل عبد الله الزبير بن العوام
ابن السيدة أسماء رضي الله عنها، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر أجمعين، فهذه العائلة المباركة بارك الله فيها، وعمت بركتها على أمة المسلمين جميعًا.
وكما رأينا سبقه وأرضاه في الإسلام والإيمان والدعوة، فإننا أيضًا نرى بوضوح سبقه في كل أعمال الخير، يروي لنا الإمام مسلم عن أبي هريرة، والبيهقي عن أنس والبزار عن عبد الرحمن بن أبي بكر حديثًا يوضح لنا مثالاً لمسارعة الصديق إلى الخير، نذكر هنا رواية البزار؛ لأن فيها توضيحًا أكثر للموقف، يقول عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: صلى رسول الله صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه فقال: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟",
فقال عمر: يا رسول الله، لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطرًا.
فقال أبو بكر: ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت صائمًا. فقال رسول
الله : "هَلْ أَحَدٌ مَنْكُمُ الْيَوْمَ عَادَ مَرِيضًا؟",
فقال عمر: يا رسول الله لم نبرح، فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: بلغني
أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ، فجعلت طريقي عليه؛ لأنظر كيف أصبح؟ فقال
رسول الله : "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ مِسْكِينًا؟"
فقال عمر: صلينا يا رسول الله، ثم لم نبرح؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد،
فإذا بسائل، فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها، ودفعتها
إليه. فقال رسول الله : "أَنْتَ فَأَبْشِر بِالْجَنَّةِ". ثم قال كلمة أرضى بها عمر، بل إن في رواية أبي هريرة في صحيح مسلم يسأل رسول الله فوق هذا فيقول: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" فقال أبو بكر: أنا. وفي نهاية الحديث قال رسول الله : "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ".
حقًّا، من العسير والله أن تحصر مواقف السبق في حياة الصديق وأرضاه فالسبق في حياته يشمل كل حياته، يلخص هذا عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. يقول عمر: أمرنا رسول الله أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا. فجئت بنصف مالي فقال رسول الله : "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟" قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلتُ -أي عمر-: لا أسبقه في شيء أبدًا.
فقال عمر: يا رسول الله، لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطرًا.
فقال أبو بكر: ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت صائمًا. فقال رسول
الله : "هَلْ أَحَدٌ مَنْكُمُ الْيَوْمَ عَادَ مَرِيضًا؟",
فقال عمر: يا رسول الله لم نبرح، فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: بلغني
أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ، فجعلت طريقي عليه؛ لأنظر كيف أصبح؟ فقال
رسول الله : "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ مِسْكِينًا؟"
فقال عمر: صلينا يا رسول الله، ثم لم نبرح؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد،
فإذا بسائل، فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها، ودفعتها
إليه. فقال رسول الله : "أَنْتَ فَأَبْشِر بِالْجَنَّةِ". ثم قال كلمة أرضى بها عمر، بل إن في رواية أبي هريرة في صحيح مسلم يسأل رسول الله فوق هذا فيقول: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" فقال أبو بكر: أنا. وفي نهاية الحديث قال رسول الله : "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ".
حقًّا، من العسير والله أن تحصر مواقف السبق في حياة الصديق وأرضاه فالسبق في حياته يشمل كل حياته، يلخص هذا عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. يقول عمر: أمرنا رسول الله أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا. فجئت بنصف مالي فقال رسول الله : "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟" قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلتُ -أي عمر-: لا أسبقه في شيء أبدًا.
مواضيع مماثلة
» جميع الأسئلة المتكررة فى الامتحانات ( الكيمياء للصف الثانى الثانوى ) على الباب الثالث ( الاتحاد الكيميائى ) مجاب عنها
» 132 امتحان رياضيات للصف السادس الابتدائى الترم الأول 2014 ( شهرية - وحدات - مينى تيرم - نصف العام - امتحانات المحافظات للأعوام المختلفة)
» هدية منتديات مصطفى شاهين لمعلمى اللغة الانجليزية ( الكتاب المدرسى الجديد 2014 للصف السادس الابتدائى بصيغة الوورد ) حصرى للمنتدى
» مذكرة مستر خالد غباشى فى اللغة الانجليزية للصف الثانى الابتدائى المنهج الجديد 2014 فى 106 ورقة وورد
» مراجعة الدليل فى العلوم للصف الثانى الاعدادى الترم الثانى ( تعريفات - مقارنات - علل - ملخص الدروس + 31 امتحان مدارس فعلية )
» 132 امتحان رياضيات للصف السادس الابتدائى الترم الأول 2014 ( شهرية - وحدات - مينى تيرم - نصف العام - امتحانات المحافظات للأعوام المختلفة)
» هدية منتديات مصطفى شاهين لمعلمى اللغة الانجليزية ( الكتاب المدرسى الجديد 2014 للصف السادس الابتدائى بصيغة الوورد ) حصرى للمنتدى
» مذكرة مستر خالد غباشى فى اللغة الانجليزية للصف الثانى الابتدائى المنهج الجديد 2014 فى 106 ورقة وورد
» مراجعة الدليل فى العلوم للصف الثانى الاعدادى الترم الثانى ( تعريفات - مقارنات - علل - ملخص الدروس + 31 امتحان مدارس فعلية )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى